انوار الاصول تقريرالابحاث ناصر مكارم شيرازي

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي، ناصر، - 1305

عنوان و نام پديدآور : انوار الاصول تقريرالابحاث ناصر مكارم شيرازي/ احمد قدسي

مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، 1424ق. = 1382.

مشخصات ظاهري : ج 3

شابك : 964-8139-13-x(دوره) ؛ 964-8139-13-x(دوره) ؛ 964-8139-13-x(دوره) ؛ 964-8139-13-x(دوره) ؛ 964-8139-12-1(ج.1) ؛ 964-8139-14-8(ج.2) ؛ 964-8139-15-6(ج.3)

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ قبلي: نسل جوان، 1424ق. = 1373

يادداشت : كتابنامه به صورت زيرنويس

مندرجات : ج. 1. مباحث الالفاظ "الي آخر النواهي" .- ج. 2. مباحث المفاهيم

موضوع : اصول فقه شيعه

شناسه افزوده : قدسي، احمد

شناسه افزوده : مدرسه الامام علي بن ابي طالب(ع)

رده بندي كنگره : BP159/8/م 7الف 8 1382

رده بندي ديويي : 297/312

شماره كتابشناسي ملي : م 82-27851

خاتمة في الاجتهاد و التقليد

اشارة

المقام الأوّل: في مباحث الاجتهاد

1- معني الاجتهاد لغةً و اصطلاحاً

2- الاجتهاد بالمعني العام و الاجتهاد بالمعني الخاصّ

3- موارد النزاع بين الأخباري و الاصولي

4- المجتهد المطلق و المجتهد المتجزي

الجهة الاولي: في أحكام المجتهد المطلق

إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق

جواز العمل بالاجتهاد المطلق

جواز القضاء للمجتهد المطلق

من مناصب المجتهد المطلق الولاية و الحكومة

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزي

جواز عمل المجتهد المتجزّي برأيه

جواز رجوع الغير اليه

قضاء المجتهد المتجزّي

5- مباني الاجتهاد

6- التخطئة و التصويب:

أسباب السقوط في هوّة التصويب

المفاسد المترتّبة علي القول بالتصويب

7- تبدّل رأي المجتهد

المقام الثاني: في مباحث التقليد:

1- جواز التقليد للعامي

2- تقليد الأعلم

3- تقليد الميّت

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 531

خاتمة في الاجتهاد و التقليد

المقدمة:

لا بدّ قبل الورود في أصل البحث من بيان مقدّمة و هي هل أنّ هذه المسألة من مسائل الفقه أو الاصول؟ الصحيح أنّها من مسائل الفقه فورودها في علم الاصول استطرادي، و لذلك يبحث عنها في الكتب الفقهيّة و الرسائل العمليّة أيضاً في ابتدائها، و الوجه في ذلك ما عرفت من أنّ المسألة الاصوليّة ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة، و لا إشكال في أنّ الاستنباط من شئون الفقيه المجتهد لا المقلد، و نتيجة المسألة الاصوليّة حكم كلّي من شئون المجتهد لا المقلِّد، بينما نتيجة هذه المسألة (أي حجّية قول المجتهد) ترجع إلي المقلد.

فلا يقال: إنّ من مسائل علم الاصول البحث عن حجّية الأمارات، و كلام المجتهد من الأمارات.

لأنّا نقول كلام المجتهد أمارة إجماليّة للمقلِّد لا المجتهد، و الأمارة الاصوليّة هي ما يقع في طريق استنباط الأحكام التفصيليّة للمجتهد.

و بعبارة اخري: البحث هنا بحث عن جواز التقليد عن المجتهد و عن أمارية قول المجتهد و حجّيته، و نتيجته و هي حجّية قول المجتهد تعود

إلي المقلّد لا المجتهد.

إذا عرفت هذا فلنشرع في مسائله، فنقول البحث فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في مباحث الاجتهاد

اشارة

و فيه امور:

الأمر الأوّل: معني الاجتهاد لغةً و اصطلاحاً

أمّا في اللغة فهو مأخوذ من الجَهد (بالفتح) أو الجُهد (بالضمّ) و هل هما بمعنيين أو بمعني

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 532

واحد؟ اختلف فيه بين أرباب اللغة، ففي مختصر الصحاح: الجَهد و الجُهد الطاقة، و في مقاييس اللغة: الجيم و الهاء و الدالّ أصله المشقّة … و الجُهد الطاقة» «1» و في مفردات الراغب: الجَهد و الجُهد الطاقة و المشقّة، و قيل: الجَهد (بالفتح) المشقّة و الجُهد الواسع … (إلي أن قال):

و الاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة و تحمّل المشقّة «2».

أقول: الظاهر أنّ معناه الأصلي هو نهاية الطاقة و القدرة التي من لوازمها المشقّة، فإنّ من بذل نهاية طاقته يقع في المشقّة و الكلفة، و عليه فالصحيح أنّه بمعني بذل نهاية الطاقة كما ذهب إليه في «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» «3» و استعمل فيه في لسان الآيات أيضاً كقوله تعالي: «وَ الَّذِينَ لٰا يَجِدُونَ إِلّٰا جُهْدَهُمْ» «4» أي نهاية طاقتهم في الإنفاق علي أمر الجهاد و قوله تعالي: «وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ» «5» أي أقسموا باللّٰه نهاية طاقتهم في القسم.

و أمّا في الاصطلاح: فقد ذكر له في كلمات الاصوليين تعاريف كثيرة:

1- ما حكي عن قدماء الاصوليين من أهل السنّة و الشيعة مثل الحاجبي و العلّامة، و هو:

«استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي».

و يرد عليه أوّلًا: أنّه لا وجه للتقييد فيه بالظنّ، لصدق الاجتهاد علي استفراغ الوسع لتحصيل العلم أيضاً.

و ثانياً: قد يكون نتيجة الاستنباط و الاجتهاد حصول الظنّ بمطلق الحجّة من دون أن يصدق عليها الحكم، كما في البراءة العقليّة و الظنّ الانسدادي علي الحكومة و الاحتياط العقلي، و حينئذٍ ليس التعريف جامعاً لتمام الافراد.

و ثالثاً: أنّه

يعمّ استفراغ وسع المقلّد في تحصيل فتوي مقلّده (بالفتح) أيضاً فلا بدّ من ضمّ قيد «عن أدلّتها التفصيليّة» إليه حتّي يخرج جهد المقلّد.

______________________________

(1) مقاييس اللغة: ج 1، ص 486.

(2) مفردات الراغب: جهد، ص 99.

(3) التحقيق في كلمات القرآن الكريم: ج 2، ص 136.

(4) سورة التوبة: الآية 79.

(5) سورة النور: الآية 53.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 533

و رابعاً: لا حاجة إلي التعبير بالاستفراغ فإنّ لبذل الوسع في باب الفحص مقداراً لازماً قد ذكر في محلّه، و هو قد لا يصل إلي حدّ الاستفراغ كما لا يخفي علي من راجع كلماتهم هناك.

إن قلت: إنّ تعاريف القوم كلّها لفظية لشرح الاسم و حصول المعني في الجملة، و ليست هي حقيقيّة لبيان الكنه و الماهيّة، لتكون بالحدّ أو الرسم، مضافاً إلي أنّه لا إحاطة لغير علّام الغيوب بكنه الأشياء كي يمكن تعريفها الحقيقي.

قلنا: أنّ التعاريف شرح الاسميّة إنّما هي من شئون اللغوي الذي هو في مقام شرح اللفظ و بيان المفهوم الإجمالي، و أمّا علماء العلوم المختلفة فكلّ واحد منهم بصدد بيان التعريف الحقيقي لما هو موضوع علمه أو موضوع مسائله، و لذلك يقول اللغوي: «سعدانة نبت» و لا يقوله عالم النبات الذي يطلب في تعريفه لشي ء من النباتات ترتيب آثار حقيقيّة خارجيّة، فإنّ فلسفة التعاريف في سائر العلوم (غير علم اللغة) إعطاء معرفة جامعة مانعة للأشياء بيد الطالب، حتّي يمكن له ترتيب آثارها عليها خارجاً، و لا إشكال في توقّفه علي إراءة تعريف جامع مانع.

و ممّا يشهد علي ما ذكره إيراد جميع علماء الاصول و غيره من العلوم و استشكالهم بجامعيّة التعاريف و مانعيتها. هذا أوّلًا.

و ثانياً: لا حاجة في تعريف كنه الأشياء إلي معرفة الجنس

و الفصل حتّي يقال بأنّ العالم بهما إنّما هو علّام الغيوب، لأنّ التعريف الجامع المانع لا يتوقّف عليهما، بل يحصل بالعرض الخاصّ أيضاً.

أضف إلي ذلك أنّ الكلام في ما نحن فيه إنّما هو في العلوم الاعتباريّة لا الحقيقيّة، و لا إشكال في أنّ كنه الامور الاعتباريّة و حقيقتها ليست أمراً وراء نفس الاعتبار، فيكون كلّ معتبر عالماً بكنه اعتباره، و لا يختصّ العلم به بعلّام الغيوب.

2- «استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة علي الحكم الشرعي».

و هذا- مع سلامته عن الإشكال الأوّل و الثاني الواردين علي التعريف السابق لمكان التعبير بالحجّة- يرد عليه الإشكالان الأخيران كما لا يخفي.

3- «أنّه ملكة يقتدر بها علي استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل، فعلًا أو قوّة قريبة منه».

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 534

و يرد عليه أوّلًا: أنّ الاجتهاد الذي يعدّ عدلًا للتقليد و الاحتياط، و الذي هو من أطراف الوجوب التخييري الثابت للاجتهاد و التقليد و الاحتياط، ليس عبارة عن نفس الملكة، كما أنّ الطبابة و النجارة و غيرهما من سائر العلوم ليست ملكات نفسانية سواء بمعناها المصدري أو اسم المصدري، لأنّ الملكة قوّة نفسانية ينشأ منها و يتولّد منها الاجتهاد، و هكذا فعل الطبابة و النجارة، نعم قد يطلق عنوان المجتهد (لا الاجتهاد) في الاصطلاح علي من له ملكة الاجتهاد و الاستنباط و لو لم يكن متلبّساً بالفعل الخارجي حين ذلك الاطلاق، فعلي هذا فرق بين المعني الوصفي و المصدري أو اسم المصدر.

ثانياً: ينبغي تبديل التعبير ب «الأصل» بقوله «من أدلّته التفصيليّة» حتّي يعم جميع الأمارات و الاصول، و لا يكون فيه إجمال و إبهام.

ثالثاً: كثيراً ما لا يكون مستنبط الفقيه حكماً من الأحكام، بل يكون من قبيل

تحصيل الحجّة علي البراءة أو الاشتغال، كما مرّ بالنسبة إلي التعريف الأوّل و الثاني.

4- ما جاء في التنقيح من «أنّ الاجتهاد هو تحصيل الحجّة علي الحكم الشرعي» «1».

و هو و إن كان أحسن من غيره من بعض الجهات، لكن يرد عليه أيضاً بعض الإشكالات لشموله عمل المقلّد أيضاً، فإنّه أيضاً يحصّل الحجّة علي الحكم الشرعي، غاية الأمر من طريق دليل إجمالي و هو «إنّ كلّ ما حكم به المجتهد فهو الحجّة علي المقلّد».

هذا- مضافاً إلي شموله للمسائل الاصوليّة لخلوّه عن قيد «الفرعيّة»، و مضافاً إلي ما أورد علي التعاريف السابقة بالإضافة إلي التعبير بالحكم من أنّه ليس جامعاً لجميع المصاديق.

فالأولي في تعريف الاجتهاد أن يقال: الاجتهاد هو استخراج الحكم الشرعي الفرعي أو الحجّة عليه من أدلّتها التفصيليّة.

بقي هنا شي ء:

و هو ما ذهب إليه بعض الأعلام في تنقيحه من أنّ ملكة الاجتهاد تحصل للإنسان و إن لم

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقي: ج 1، ص 22، طبعة مؤسسة آل البيت.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 535

يتصدّ الاستنباط و لو في حكم واحد، و قال في توضيحه: «أنّ ملكة الاجتهاد غير ملكة السخاوة و الشجاعة و نحوهما من الملكات، إذ الملكة في مثلهما إنّما يتحقّق بالعمل و المزاولة كدخول المخاوف و التصدّي للمهالك، فإنّ بذلك يضعف الخوف متدرّجاً و يزول شيئاً فشيئاً حتّي لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة و غيرها من الامور المهام، فتري أنّه يدخل الأمر الخطير كما يدخل داره، و كذلك الحال في ملكة السخاوة فإنّ بالإعطاء متدرّجاً قد يصل الإنسان مرتبة يقدّم غيره علي نفسه فيبقي جائعاً و يطعم ما بيده لغيره، و المتحصّل أنّ العمل في أمثال تلك الملكات متقدّم علي

الملكة، و هذا بخلاف ملكة الاجتهاد لأنّها إنّما يتوقّف علي جملة من المبادئ و العلوم كالنحو و الصرف و غيرهما، و العمدة علم الاصول فبعد ما تعلّمها الإنسان تحصل له ملكة الاستنباط و إن لم يتصدّ للاستنباط و لو في حكم واحد» «1».

لكن الإنصاف أنّ هذا مجرّد فرض، فإنّ من المحالات جدّاً أن تحصل للإنسان ملكة الاستنباط بمجرّد تحصيل المبادئ و لو لم يتصدّ للاستنباط في حكم واحد، بلا فرق بينها و بين سائر الملكات، و إن شئت فاختبر نفسك من لدن الشروع في تحصيل علم الفقه و مبانيها فإنّك تري لزوم الممارسة في تطبيق القواعد الاصوليّة علي مصاديقها و ممارسة ردّ الفروع إلي الاصول في كثير من الكتب التي تدرس في الحوزات العلمية ككتاب مكاسب الشيخ و غيرها فإنّ طلّاب الفقه لا يقدرون علي الاجتهاد حتّي في حدّ التجزّي بدون هذه الممارسات.

و الحاصل أنّه لا فرق بين علم الطبّ و علم الفقه و غيرهما من العلوم في لزوم الممارسة مدّة طويلة في تطبيق القواعد علي مصاديقه و ردّ الفروع إلي اصولها في العمل حتّي تتمّ ملكة الاجتهاد فيها، بل من المحال عادةً حصول شي ء منها بغير الممارسة العمليّة، فالعالم بقواعد العلوم إذا لم يكن ممارساً لها عملًا لا يقدر علي الاجتهاد فيها قطعاً، و لو فرض قدرته عليه في بعض المسائل الساذجة فلا شكّ في عدم قدرته علي الاجتهاد في المسائل الخطيرة المشكلة.

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقي: ج 1، ص 21، طبعة مؤسسة آل البيت.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 536

الأمر الثاني: الاجتهاد بالمعني العام و الاجتهاد بالمعني الخاصّ

الاجتهاد بالمعني العام، و الاجتهاد بالمعني الخاصّ (و قد مرّ البحث عنهما في مواضع مختلفة من الاصول، و هاهنا هو المحلّ

الأصلي للكلام عنه فلا بأس بإعادته مع بسط و توضيح).

أمّا الاجتهاد بالمعني العام فهو ما مرّ تعريفه في الأمر الأوّل و يكون مقبولًا عند الشيعة و السنّة، و سيأتي أنّ الأخباري أيضاً يقبله في مقام العمل و إن كان ينكره باللسان.

و أمّا الاجتهاد بالمعني الخاصّ فهو مختصّ بأهل السنّة، و المراد منه نوع تشريع و جعل قانون من ناحية الفقيه فيما لا نصّ فيه علي أساس القياس بالأحكام المنصوصة أو الاستحسان أو الاستصلاح (المصالح المرسلة) أو غير ذلك من مبانيهم «1».

______________________________

(1) و لا بأس بالإشارة إلي بعض ما ذكروه في تعريف هذه المباني و توضيحها:

أمّا القياس فقال بعضهم: «القياس هو إلحاق أمر بآخر في الحكم الشرعي لاتّحاد بينهما في العلّة.. و كلّ مجتهد يقيس بنظره الخاصّ في كلّ حادثة لا نصّ عليها في الكتاب أو السنّة و لا إجماع عليها» (المدخل الفقهي العام: لمصطفي أحمد الزرقاء، ج 1 ص 73).

و قال في موضع آخر: «و لا يخفي أنّ نصوص الكتاب و السنّة محدودة متناهيّة، و الحوادث الواقعة و المتوقّعة غير متناهيّة فلا سبيل إلي إعطاء الحوادث و المعاملات الجديدة منازلها و أحكامها في الشريعة إلّا طريق الاجتهاد بالرأي الذي رأسه القياس» (ج 1، ص 74).

و قال في موضع أخر (بعد نقل دليل عن الشهرستاني يقرب ممّا ذكره في وجوب الاجتهاد و القياس):

«و ليس مراده قياس الأولويّة القطعيّة بل الظنّية، و لذا ذكر في أمثلتها قياس الفقهاء قياس حال المتولّي للوقف علي ولي اليتيم و أخذ أحكام الوقف من الوصية، و قياس أحكام الإجارة بالبيع و قياس تغييره صورة العين المغصوبة، مثل ما لو جعل الحنطة دقيقاً علي التلف، فقالوا بضمان المثل أو القيمة» (ج 1،

ص 79).

ثمّ قال: إنّ هناك جماعة من فقهاء بعض المذاهب لم يقبلوا طريقة القياس، فسمّوا الظاهريّة، و لم يكن لمذهبهم هذا حياة و وزن لمخالفته ضرورات الحياة التشريعية، بل القياس هو سرّ سعة الفقه الإسلامي الشاملة لما كان و ما يكون من الحوادث» (ج 1، ص 81) (أقول: و سيأتي في محلّه إن شاء اللّٰه نقل هذا الكلام و بيان ضعفه من شتّي الجهات).

و أمّا الاستحسان فقد ذكر في تعريفه أنّه «العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلي حكم آخر بوجه أقوي يقتضي هذا العدول» و لعلّ أحسن التعاريف المأثور للاستحسان و أشمله لأنواعه ما حكاه في الكتاب المزبور عن أبي الحسن الكوفي من أئمّة مذهب الحنفي، و تلخّصه: «أنّ الاستحسان هو قطع المسألة عن نظائرها، فهو عكس القياس الذي هو إلحاق المسألة بنظائرها في الحكم (و مثّل له بعدم ضمان الأمين في الوديعة الذي يقاس عليه كلّ أمانة كمال الشركة و الإجارة) و لكنّهم فرّقوا في الاستحسان بين الأجير الخاصّ كالخادم و الأجير العام كالصيّاغ و نحوه فقالوا أنّه ضامن كي لا يتقبّل من أعمال الناس أكثر من طاقته طمعاً في زيادة الربح» (ج 1، ص 83- 89).

هذا- و لكن الشافعي في كتاب الامّ عقد بحثاً سمّاه بكتاب إبطال الاستحسان، و يقول فيما يؤثر عنه: ليس للمجتهد أن يشرع، و من استحسن فقد شرع (ج 1 ص 125).

و أمّا المصالح المرسلة فقال في نفس الكتاب أيضاً: و المصالح المرسلة هي كلّ مصلحة لم يرد في الشرع نصّ علي اعتبارها بعينها أو بنوعها … فإذا كانت المصلحة قد جاء بها نصّ خاصّ بعينها ككتابة القرآن صيانة له من الضياع و كتعليم القراءة و الكتابة، أو كانت

ممّا جاء نصّ عامّ في نوعها يشهد له الاعتبار كوجوب تعليم العلم و نشره … فعندئذ تكون من الصالح المنصوص عليها عيناً أو نوعاً لا من المصالح المرسلة، و يعتبر حكمها ثابتاً بذلك النصّ لا بقاعدة الاستصلاح (فالمصالح المرسلة تكون مقابلة للمنصوصة) (ج 1، ص 98).

و أمّا سدّ الذرائع فقال: «أنّه من فروع الاستصلاح يمنع شرعاً كلّ طريق أو وسيلة قد تؤدّي عن قصد أو غير قصد إلي المحاذير الشرعيّة، و يسمّي هذا الأصل في اصطلاح الفقهاء و الاصوليين مبدأ سدّ الذرائع» (ج 1، ص 107) و قال في موضع آخر ما حاصله: أنّه عبارة عن منع كلّ ما يمكن أن يكون حيلة لإبطال حكم الشرع و يتسبّب إليه، ثمّ مثّل له من الشرع بأمثلة كثيرة مثل منع بناء المساجد علي القبور و النهي عن الخلوة بالأجنبية، ثمّ ذكر أحكاماً اجتهادية علي هذا المبني مثل أن يكون من حقّ الزوجة المطلّقة طلاق الفرار من الإرث، و ذكر من مصاديق هذا النوع من الاستصلاح مسألة تغيير الأحكام بتغيّر الزمان و حكي له أمثلة كثيرة: منها أنّ الفقهاء المتقدّمين كانوا يجيزون إيجاد عقارات الواقف مهما كانت مدّة الإيجار طويلة أو قصيرة، و لكن المتأخّرين لمّا رأوا كثرة غصب المتنفّذين لأملاك الأوقاف و تواطؤ بعض المسئولين علي الأوقاف معهم أفتوا بمنع إيجار عقار الوقف أكثر من سنة واحدة في الدور و الحوانيت المبنية، و ثلاث سنين في الأراضي الزراعية خشية أن يدّعي المستأجر في النهاية ملكية العقار (ج 1، ص 110).

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 537

و لتوضيح ذلك لا بدّ من نقل بعض كلماتهم في هذا المجال:

ففي مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه (لمؤلّفه عبد

الوهّاب الخلّاف): «الاجتهاد بذل الجهد للتوسّل إلي الحكم في واقعة لا نصّ فيها بالتفكّر و استخدام الوسائل التي هدي الشارع إليها (كالقياس و الاستحسان) للاستنباط فيما لا نصّ فيه» «1».

و حكي عن مالك و أحمد: «إنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه و لا إجماع، و أنّ المصلحة التي لا يوجد من الشرع ما لا يدلّ علي اعتبارها و لا علي إلغائها

______________________________

(1) مسار التشريع الإسلامي: ص 7، حكيناه من الاصول العامّة: ص 564.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 538

مصلحة صالحة لأن يبني عليها الاستنباط» «1».

بل قد يري من بعضهم التعدّي عنه و القول به حتّي في مقابل النصّ، و لعلّ أوّل من أسّسه إنّما هو الخليفة الثاني في قصّة المتعتين المعروفة، ثمّ انحصر عند متأخّريهم في خصوص السياسيات و المعاملات، فذهب جماعة منهم إلي جواز الاجتهاد فيهما حتّي فيما فيه نصّ.

فذهب الطوفي من علماء الحنابلة إلي أنّ المصالح تتقدّم في السياسيات الدنيوية و المعاملات علي ما يعارضها من النصوص عند تعذّر الجمع بينهما «2»، (و لكن لم يوافقه علي هذا المعني كثير منهم).

نعم خالفهم في هذا النوع من الاجتهاد الشافعي بالنسبة إلي الاستصلاح و الاستحسان و قال: «إنّه لا استنباط بالاستصلاح، و من استصلح فقد شرّع كمن استحسن، و الاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوي» «3».

و بعضهم كالظاهريين خالفهم في القياس أيضاً و قالوا بأنّه بدعة» «4».

و قد مرّ أنّ هذا هو منشأ التصويب عند الإمامية لأنّ عليه يكون كل فقيه قد أعطي حقّ التشريع و التقنين بحيث يكون حكم كلّ واحد منهم حكم اللّٰه الواقعي، و لا يخفي أنّه أشدّ قبحاً و أكثر فساداً من المجالس التقنينيّة في يومنا هذا، حيث إنّ

أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّي بشوري التقنين الذين يمثّلون بلداً واحداً و قطراً عظيماً، لا كل فرد من علمائهم و متخصّصيهم.

هذا مضافاً إلي ما يترتّب عليه من التوالي الفاسدة في مختلف أجواء العالم الإسلامي.

و لبعض المعاصرين رحمه الله كلام في هذا المقام نحبّ إيراده مع تلخيص منّا، و هو أنّ لهذا المذهب آثار سوء في مختلف مجالات الفكر يمكن أن تلخيصها في ثلاث مجالات:

الأوّل: في المجال الفقهي حيث صار منشأ لظهور المذهب الظاهري علي يد داود بن علي

______________________________

(1) الاصول العامّة: ص 384.

(2) المصدر السابق: ص 384- 385.

(3) الاصول العامّة: ص 385.

(4) المصدر السابق: ص 321.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 539

بن خلف الأصبهاني في أواسط القرن الثالث، إذ كان يدعو إلي العمل بظاهر الكتاب و السنّة و الاقتصار علي البيان الشرعي، و يشجب الرجوع إلي العقل.

الثاني: في المجال العقائدي و الكلامي فصار سبباً لظهور الأشعري الذي عطّل العقل و زعم أنّه ساقط بالمرّة عن إصدار الحكم حتّي في المجال العقائدي. فبينما كان المقرّر عادةً بين العلماء: أنّ وجوب المعرفة باللّٰه و الشريعة ليس حكماً شرعياً و إنّما هو حكم عقلي، لأنّ الحكم الشرعي ليس له قوّة دفع و تأثير في حياة الإنسان إلّا بعد أن يعرف الإنسان ربّه و شريعته، فيجب أن تكون القوّة الدافعة إلي معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي (أي من نوع الحكم العقلي)- بينما كان هذا هو المقرّر عادةً بين المتكلّمين- خالف في ذلك الأشعري، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم و أكّد أنّ وجوب المعرفة باللّٰه حكم شرعي كوجوب الصوم و الصّلاة.

الثالث: في علم الأخلاق (و كان وقتئذٍ يعيش في كنف

علم الكلام) فأنكر الأشاعرة قدرة العقل علي تمييز الحسن من الأفعال عن قبيحها حتّي في أوضح الأفعال حسناً أو قبحاً، فالظلم و العدل لا يمكن للعقل أن يميّز بينهما، إنّما صار الأوّل قبيحاً و الثاني حسناً بالبيان الشرعي و لو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم و يستقبح العدل لم يكن للعقل أي حقّ للاعتراض علي ذلك.

و لا إشكال في أنّ هذه النتائج الفاسدة الشنيعة مشتملة علي خطر كبير و الرجوع عن الإسلام إلي الجاهلية الذي قد لا يقلّ عن الخطر الذي كان يستبطنه مصدر تلك النتائج أي مذهب الرأي و الاجتهاد لأنّها حاولت القضاء علي العقل بشكل مطلق و تجريده عن كثير من صلاحياته و ايقاف النحو العقلي في الذهنيّة الإسلاميّة بحجّة التعبّد بنصوص الشارع و الحرص علي الكتاب و السنّة، و لهذا كانت تختلف اختلافاً جوهرياً عن موقف مدرسة أهل البيت التي كانت تحارب مذهب القياس و الاستحسان و تؤكّد في نفس الوقت أهميّة العقل و ضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة و اعتباره ضمن تلك الحدود بعنوان أداة رئيسية أصلية لإثبات الأحكام الشرعيّة حتّي جاء في نصوص أهل البيت عليهم السلام: «إنّ للّٰه علي الناس حجّتين حجّة ظاهرة و حجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمّة، و أمّا الباطنة

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 540

فالعقول» «1»، و هكذا جمعت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بين حماية الشريعة من فكرة النقص و حماية العقل من مصادرة الجامدين (انتهي) «2».

و من هنا يتّضح أنّهم لما ذا سدّوا باب الاجتهاد في النهاية فإنّ هذا التفريط من نتائج ذلك الإفراط و لوازمه القهرية كما لا يخفي.

و كيف كان، لا بدّ من تحديد نظر علماء

الإماميّة في هذا المجال و أنّهم لما ذا ردّوا هذا النوع من الاجتهاد بل حملوا عليه حملة شديدة فنقول: إنّه يمكن الاستناد في بطلانه إلي وجوه شتّي:

الأوّل: ما يدلّ من آيات الكتاب العزيز علي أنّه لا واقعة إلّا و لها حكم و بيان في القرآن الكريم نظير قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» «3» و قوله تعالي: «وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4» (و المراد من «كلّ شي ء» كلّ ما له دخل في هداية نفوس الإنسان و تربيتها).

الثاني: الأخذ بحديث الثقلين فإنّ أحدهما هو عترة الرسول عليهم السلام، و مع وجودهم لا يحسّ فقدان نصّ، لأنّ ما كان يصدر منهم كان من جانب الرسول صلي الله عليه و آله لا من عند أنفسهم فكان البيان الشرعي لا يزال مستمرّاً باستمرار الأئمّة، و فقهاء العامّة حيث إنّهم كانوا يعتقدون بأنّ البيان الشرعي متمثّل في الكتاب و السنّة النبويّة المأثورة عن الرسول فقط، و هما لا يفيان إلّا بشي ء قليل من حاجات الاستنباط- بل حكي عن أبي حنيفة (الذي كان علي رأس مذهب الاجتهاد بالمعني الخاصّ أو من روّاده الأوّلين) أنّه لم يكن عنده من الأخبار الصحيحة المنقولة عن النبي صلي الله عليه و آله إلّا خمسة و عشرون حديثاً- التجئوا لرفع هذه الحاجات إلي هذا النوع من الاجتهاد لإحساسهم خلأً قانونياً في الشريعة و نقصاناً في الأحكام الفرعية لا بدّ في رفعه إلي التمسّك بذيل القياس و نحوه.

الثالث: روايات متواترة تدلّ علي أنّه ما من شي ء تحتاج إليه الامّة إلي يوم القيامة إلّا

______________________________

(1) اصول الكافي: ج 1، ص 13 ح 12.

(2) المعالم الجديدة للمحقّق الشهيد محمّد باقر الصدر قدّس اللّٰه

نفسه الزكية و شكر اللّٰه مساعيه الجميلة: ص 41.

(3) سورة المائدة: الآية 3.

(4) سورة النحل: الآية 89.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 541

و قد ورد فيه حكم أو نصّ، و قد جمعت مقدّمة كتاب في جامع أحاديث الشيعة نقلًا عن الكافي للكليني و غيره.

الرابع: ما ثبت لنا عملًا و تاريخياً إلي حدّ الآن في طيلة الأعصار و القرون من الصدر الأوّل إلي عصرنا هذا من أنّ فقهاء الخاصّة و أصحابنا الإماميّة قدّس اللّٰه أسرارهم لم يحسّوا حاجة لرفع الحاجات الفقهيّة إلي إعمال مثل القياس و الاستحسان فإنّ لديهم نصوصاً خاصّة من ناحية أهل بيت العصمة و اصولًا كلّية تنطبق علي أكثر القضايا و المصاديق الفرعية، و قواعد و اصولًا عملية يرجعون إليها في سائر القضايا الفقهيّة، و هذا هو معني انفتاح باب العلم و الاجتهاد عندهم خلافاً لفقهاء الجمهور فإنّهم بعد اعراضهم عن مكتب عترة الرسول و ما وصّي به في حديث الثقلين و غيره من لزوم التمسّك بعترته في عرض التمسّك بالكتاب العزيز اعتقدوا عدم كفاية الكتاب و السنّة لرفع حاجات الاستنباط كما مرّ، و بالتالي ظنّوا عدم كفاية نصوص الكتاب و السنّة للدلالة علي الحكم في كثير من القضايا، و لازمه عدم استيعاب الشريعة لمختلف شئون الحياة، و بتبعه استباحوا لأنفسهم أن يعملوا بالظنون و الاستحسانات و يتصدّوا لتشريع الأحكام في هذه الأبواب.

الخامس: أنّ الاجتهاد بهذا المعني معناه نقصان الشريعة، و أنّ اللّٰه تعالي لم يشرّع في الإسلام إلّا أحكاماً معدودة، و هي الأحكام التي جاء بيانها في الكتاب و السنّة، و ترك التشريع في سائر المجالات إلي الفقهاء من الناس ليشرّعوا الأحكام علي أساس الظنّ و الاستحسان، و لا يخفي أنّ

لازمه الفوضي و الهرج و المرج الشديد في الدين و ما لا نجد نظيره حتّي في التقنينات العقلائيّة في اليوم لأنّ ما يجعل و يقنّن فيها هو قانون واحد لا قوانين عديدة بعدد الفقهاء و العلماء كما مرّ آنفاً.

و لما ذكرنا كلّه خصوصاً لهذه النتيجة الفاسدة الشنيعة نهض أمير المؤمنين علي عليه السلام في مقام الذمّ لهذا النوع من الاجتهاد في عصره (فكيف بالأعصار اللاحقة) بما مرّ ذكره في بعض الأبحاث السابقة، و لا بأس بإعادته لأنّه كالمسك كلّما كرّرته يتضوّع، قال فيما روي عنه في نهج البلاغة: «ترد علي أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثمّ ترد تلك القضية

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 542

بعينها علي غيره فيحكم فيها بخلاف قوله … أم أنزل اللّٰه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علي إتمامه، أم كانوا شركاء للّٰه فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضي، أم أنزل اللّٰه سبحانه ديناً تامّاً فقصر الرسول صلي الله عليه و آله عن تبليغه و أدائه، و اللّٰه سبحانه يقول: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ … ».

و لا يخفي أنّ هذا البيان و كذلك غيره من الأخبار التي وردت في ذمّ هذا النوع من الاجتهاد من سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام- في الواقع دفاع عن كيان الدين و أساس الشريعة و التأكيد علي كمالها و عدم النقص فيها.

فقد ظهر ممّا ذكرنا بطلان القسم الثاني من الاجتهاد، و لعلّ الخلط بين القسمين صار منشأً لمعارضة الأخباريين مع الاصوليين، و إلّا فإنّ الاجتهاد بالمعني الأعمّ يعمل به الأخباري أيضاً في المجالات المختلفة من الفقه، و إن شئت فراجع إلي كتاب الحدائق حتّي تلاحظ كونه اجتهاد و استنباط

من المحدّث البحراني من أوّله إلي آخره، و كذا غيره من أشباهه.

الأمر الثالث: موارد النزاع بين الأخباري و الاصولي

و يرجع تاريخ هذا النزاع إلي أوائل القرن الحادي عشر علي يد الميرزا محمّد أمين الاسترآبادي رحمه الله صاحب كتاب الفوائد المدنية (و إن كانت بذوره موجودة من قبل في كلمات جمع من المحدّثين المتقدّمين) فابتدأ النزاع منه، ثمّ استمرّ إلي القرن الثاني عشر، و استبان الحقّ فيه تدريجاً.

و عمدة محلّ الخلاف بين الطائفتين امور ثلاثة:

1- مسألة جواز الاجتهاد.

2- حجّية العقل.

3- تقليد العوام المجتهدين.

أمّا المورد الأوّل: فقد أشرنا سابقاً إلي أنّ الأخباري أيضاً يستنبط الحكم من أدلّته و يجتهد علي نحو الاجتهاد بالمعني العام في مقام العمل، كما أنّ الاصولي أيضاً يخالف الاجتهاد بالمعني الخاصّ، فالنزاع بينهم في هذا المجال كأنّه نشأ من مناقشة لفظية و اشتراك لفظي أو معنوي في كلمة الاجتهاد أو الرأي أو الظنّ، فإنّ للاجتهاد معنيين: المعني العام و المعني الخاصّ (و قد مرّ تعريفهما و بيان المقصود من كلّ واحد منهما) كما أنّ للعمل بالظنّ و هكذا العمل بالرأي أيضاً معنيين، فهما عند الاصوليين بمعني العمل بالأمارات المعتبرة و ظواهر الكتاب و السنّة،

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 543

و عند العامّة بمعني العمل بالقياس الظنّي أو الاستحسان الظنّي، فقد وقع الخلط بين المعنيين لأجل هذا الاشتراك.

و الشاهد علي لفظية النزاع أنّ بعض الأخباريين أيضاً بحثوا عن كثير من مباحث الاصول في ابتداء كتبهم الفقهيّة كالمحدّث البحراني، حيث خصّص قسماً كبيراً من المجلّد الأوّل من حدائقه بالبحث عن المسائل الاصوليّة أي قواعد الاجتهاد بالمعني العام و إن عبّر عنه بمقدّمات الحدائق لا المسائل الاصوليّة، كما أنّ تتبّع كلمة الاجتهاد في تاريخ الفقه و الحديث يدلّنا بوضوح أنّ هذه

الكلمة كانت تستخدم للتعبير عن الاجتهاد بالمعني الخاصّ منذ عصر الأئمّة عليهم السلام إلي عدّة قرون و كان هو المراد منها في الروايات المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي تذمّ الاجتهاد و كذلك في كلمات الأصحاب و تصنيفاتهم التي ألّفوها في هذا المجال، و يكفيك مثل هذا التعبير في بعض كلماتهم: «أنّ الاجتهاد باطل، و أنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ و لا الرأي و لا الاجتهاد»، فإنّه دليل ظاهر علي أنّ مرادهم من الاجتهاد هو ما يرادف الرأي و الظنّ.

و بهذا نعرف أيضاً أنّ لكلمة الأخباري أيضاً معنيين: أحدهما ما يرادف مصطلح المحدّث الذي يطلق في الكلمات علي مثل الصدوق و الكليني رحمهما الله، و الثاني ما يقابل مصطلح الاصولي، الذي ظهر أمره و انتشر انتشاراً كثيراً في القرن الحادي عشر علي يد أمين الاسترآبادي، و المتبادر منه هو الأخير كما أنّ المتبادر من المحدّث هو الأوّل.

هذا كلّه في المورد الأوّل من موارد الاختلاف بين الأخباري و الاصولي.

أمّا المورد الثاني: و هو حجّية العقل فقد وقع النزاع فيه أيضاً بين الطائفتين، و قد أنكر الأخباريون اعتبار العقل إنكاراً تامّاً، و حيث أورد عليهم بأنّه لو عزلتم العقل عن حكمه مطلقاً فمن أين تثبت اصول الدين؟ و هل يمكن إثباته بالدليل النقلي مع استلزامه الدور الواضح؟ فلذا أخذ جماعة منهم في الاستثناء عن هذا العموم فقال بعضهم باعتبار العقل البديهي، و بعضهم باعتبار ما يقرب إلي الخمس من العقل النظري كالرياضيات إلي غير ذلك ممّا ذكروه في هذا المقام ممّا يدلّ علي وقوعهم في هرج و تناقض من هذا الأمر و حيث قد مرّ الكلام في جميع ذلك مشروحاً في مباحث القطع فلا

حاجة إلي إعادته فراجع و تأمّل.

و أمّا المورد الثالث: و هو تقليد العوام للعلماء- فقد ذهب الأخباريون إلي عدم جوازه،

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 544

و قالوا أنّ اللازم علي المجتهد إراءة النصوص الشرعيّة إلي العوام لكي يعملوا بها مباشرة و بدون واسطة، كما كان ذلك ديدن القدماء من الأصحاب إلي «نهاية» شيخ الطائفة رحمه الله، فقد كانت كتبهم الفتوائية متلقّاة من كلمات المعصومين و متّخذة من نفس العبارات الواردة في الأخبار بعد تنقيحها و تهذيبها و علاج التعارض بينها.

أقول: لا يخفي أنّ هذا النزاع أشبه بالمناقشة اللفظية أو مغالطة واضحة، حيث إنّ اعطاء النصوص و الأخبار بأيدي العوام بعد حلّ تعارضها و تهذيب إسنادها و تخصيص عمومها بخصوصها و تقييد مطلقها بمقيّدها و غير ذلك ممّا لا بدّ منه في مقام استخراج الأحكام ليس أمراً وراء الاجتهاد من جانب الفقيه، و التقليد من جانب العوام، و القائلون بجواز التقليد لا يريدون شيئاً وراء هذا.

و الكتب المشار إليها أيضاً من هذا القبيل، نعم هي خالية غالباً عن تفريع الفروع، و أين هذا من عدم اجتهادهم في بيان اصول الأحكام؟

الأمر الرابع: المجتهد المطلق و المتجزّي

اشارة

أمّا المجتهد المطلق فقد عرّف بأنّه من له ملكة يقتدر بها علي استنباط جميع الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

و التعريف بالملكة لا ينافي ما مرّ سابقاً من «أنّ الاجتهاد عبارة عن المعني المصدري أو اسم المصدري للاستخراج و الاستنباط، فيكون أمراً فعلياً لا بالقوّة» لأنّ الكلام هنا في المتّصف بهذه الصفة و المشتقّ منها، أي عنوان «المجتهد» (لا «الاجتهاد») و لا يخفي أنّ المبدأ في مثل هذه العناوين و المشتقّات أخذ علي نحو الملكة لا علي نحو الفعلية بعنوان الملكة، فإنّ قيام المبدأ بالذات علي أنحاء مختلفة

كما قرّر في محلّه في بحث المشتقّ.

و المجتهد المتجزّي عبارة عن، من له ملكة يقدر بها استنباط بعض الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فقط.

و حينئذٍ يقع البحث في جهتين:

الجهة الاولي: في أحكام المجتهد المطلق.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 545

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزّي.

أمّا الجهة الاولي: في أحكام المجتهد المطلق
اشارة

فلتحقيق البحث فيها لا بدّ من رسم مسائل:

المسألة الاولي: إمكان تحقّق الاجتهاد المطلق

ربّما يقال بعدم إمكان الاجتهاد المطلق، لأنّ الفقيه لو بلغ إلي أي مرتبة من العلم و الفقاهة يبقي مع ذلك في بعض المسائل متردّداً، و لذا قد يتردّد الأعلام في بعض المسائل، و يقولون في كتبهم الاستدلاليّة: أنّ المسألة بعدُ محلّ إشكال أو محلّ تأمّل فيعبّرون في رسائلهم العمليّة بوجوب الاحتياط.

و يمكن الجواب عنه: بأنّ هذه الاحتياطات إنّما تدلّ علي وجود تعقيد في المسألة فحسب، و لذلك يقتضي الورع الفقهي عدم إعلان فتواه العلمي ما لم يحسّ ضرورة في إعلانه، و إن شئت قلت: إنّما يحتاط الفقهاء الأعلام في بعض المسائل لأحد أمرين:

أحدهما: حاجة المسألة إلي تتبّع كثير لا يسع له الوقت أو لا يحضر منابعها و مداركها بالفعل.

ثانيهما: ما يكون الدليل فيه في أقلّ مراتب الحجّية فلا يجترئ الفقيه للفتوي لشدّة ورعه، و لأن لا يبعّد المكلّفين مهما أمكن عن الأحكام الواقعيّة، و لكن لو مسّت الحاجة إلي تبيين الحكم كانوا قادرين عليه، لأنّ المسألة إمّا ورد في نصّ يبلغ مرتبة الحجّية أم لا، و علي تقدير وروده إمّا يوجد معارض أم لا، و علي تقدير عدم وروده إمّا يكون هناك اطلاق أو عموم، أو لا يوجد شي ء من ذلك ما عدا الاصول العمليّة التي تكون حاصرة لمواردها حصراً عقلياً، و الوظيفة في جميع هذه الفروض معلومة مبيّنة، لا معني لعجز الفقهاء الأكابر الأعلام عن تشخيصها.

نعم، لمّا كانت الاحتياطات موجبة لخروج الشريعة عن كونها سهلة سمحة فالجدير بالعلماء الأعلام أن لا يحوموا حولها إلّا بشرطين:

أحدهما: أن يكون المورد من الموارد التي لا توجب للمقلّد الكلفة و المشقّة الشديدة في

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 546

مقام

العمل، كما أنّه كذلك في الاحتياط بالجمع بين القصر و الإتمام في الصّلاة و الصيام.

ثانيهما: كون المورد من الموارد التي لا يمكن فيها تحصيل الحدّ الأقل من الحجّة بسهولة، و إلّا ففي غير هذين الموردين يجب عليه ترك الاحتياط و إظهار الفتوي.

المسألة الثانية: جواز العمل بالاجتهاد المطلق

لا ريب في جواز عمل المجتهد برأيه في أعماله، لشمول الخطابات الشرعيّة و أدلّة الأمارات المعتبرة و الاصول العمليّة له، فبعد ثبوتها عنده يجب العمل علي طبقها، بل يكون تقليده لغيره حراماً، لأنّه علي الفرض يري المخالف له في فتواه جاهلًا و مخطئاً، أي قامت الحجّة عنده علي أنّ ما يقوله المخالف ليس حكم اللّٰه، فكيف يرجع إليه و يلتزم بفتواه في مقام العمل؟ نعم إذا كان قادراً علي الاستنباط و لم يستنبط فالمعروف هنا أيضاً حرمة تقليده للغير، لكنّه لكن لا يخلو عن إشكال كما ذكرنا في محلّه.

و أمّا عمل الغير باجتهاده و فتاويه فقد ذهب الأخباريون من أصحابنا إلي عدم جوازه، و سيأتي في أحكام التقليد بيان بطلانه و ضعفه، و عدم التزام الأخباري أيضاً به في العمل، و المشهور جوازه، بل ادّعي صاحب الفصول أنّه إجماعي بل ضروري، و هو غير بعيد كما سيأتي.

و فصّل المحقّق الخراساني رحمه الله بين ما إذا كان المجتهد انفتاحياً فيجوز تقليده، و بين ما إذا كان انسدادياً فلا يجوز، و استدلّ علي عدم الجواز في الانسدادي بما حاصله: أنّ رجوع الغير إليه ليس من رجوع الجاهل إلي العالم بل إلي الجاهل، أضف إلي ذلك أنّ أدلّة جواز التقليد إنّما دلّت علي جواز رجوع غير العالم إلي العالم، و أمّا مقدّمات الانسداد الجارية عند الانسدادي فمقتضاها حجّية الظنّ في حقّ نفسه دون غيره، إذ لا

ينحصر المجتهد بالانسدادي فقط، هذا كلّه علي تقدير الحكومة، و أمّا بناءً علي الكشف فإنّه و إن ظفر المجتهد الانسدادي بناءً عليه بحكم اللّٰه الظاهري من طريق كشف العقل عنه، و لكن يبقي الإشكال الثاني علي قوّته، أي لا دليل علي جريان مقدّمات الانسداد بالنسبة إلي غيره مع وجود المجتهد الانفتاحي.

أقول: و للنظر في كلامه مجال من جهات شتّي:

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 547

أوّلًا: ليس بناء العقلاء في رجوع الجاهل إلي العالم علي رجوعه إلي العالم بالحكم فقط، بل إنّه استقرّ علي رجوع الجاهل إلي العالم مطلقاً سواء كان عالماً بالحكم أو بمطلق الحجّة و مواقع العذر، و إن هو إلّا نظير البراءة العقليّة و الاحتياط العقلي علي القول بالانفتاح، بل نظير تمام الأمارات علي مبني القائلين بالمنجّزية و المعذّريّة، حيث إنّ مفاد أدلّة حجّية الأمارة حينئذٍ ليس حكماً شرعياً حتّي يكون العالم به عالماً بالحكم، بل إنّ مفاده حينئذٍ قضيتان شرطيّتان و هما: إن أصاب الواقع فهو منجّز و إن خالف الواقع كان معذّراً.

ثانياً: في قوله أنّ مقدّمات الانسداد لا تكاد تجري بالنسبة إلي غير المجتهد- أنّ الفقيه المجتهد يكون كالنائب عن جميع الناس يكشف مواقع الأدلّة في حقّهم، و لا يخفي وضوح هذا المعني في كشفه عن أحكام لا ترتبط به نفسه، كالأحكام المختصّة بالنساء في الحيض و النفاس و غيرهما، فهو كالنائب عنهنّ في تشخيص موارد الأدلّة، و كذلك الكلام عن انسداد باب العلم.

فإنّه لو رأي انسداد باب العلم فكأنّه رأي انسداده لجميع الناس، فليكن رأيه حجّة لجميعهم.

ثالثاً: أنّ المجتهد الانسدادي لو فرض كونه أعلم من غيره فكيف يعدّ جاهلًا بالحكم، و غيره الانفتاحي عالماً بالحكم، مع أنّ المجتهد الانفتاحي

قد يكون من أقلّ تلامذته و يكون جاهلًا مركّباً في نظره؟

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وجه للتفصيل بين الانسدادي و الانفتاحي في حجّية قول المجتهد المطلق لغيره.

المسألة الثالثة: جواز القضاء للمجتهد المطلق

قد يقال: أنّ مقتضي مقبولة عمر بن حنظلة لمكان التعبير ب «حكم بحكمنا» و «عرف أحكامنا» اختصاص نفوذ قضاء المجتهد المطلق بما إذا كان انفتاحياً، حيث إنّ الانسدادي ليس عالماً بالحكم و عارفاً بالأحكام.

و لكن الجواب هو الجواب، و هو أنّ المراد من الحكم إنّما هو مطلق الحجّة، فالعارف بالحجج أيضاً يعدّ عارفاً بالأحكام، كما أنّ الحاكم بالحجّة أيضاً يكون حاكماً بالحكم.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 548

بقي هنا شي ء:

و هو ما أفاده بعض الأعلام فيمن له ملكة الاجتهاد و لم يجتهد بالفعل، أو اجتهد شيئاً قليلًا، من عدم جواز الرجوع إليه في التقليد، و عدم نفوذ قضائه و تصدّيه للُامور الحسبيّة، من باب أنّ الأدلّة اللفظيّة المستدلّ بها علي جواز التقليد من الآيات و الروايات أخذت في موضوعها عنوان العالم و الفقيه و غيرهما من العناوين غير المنطبقة علي صاحب الملكة، و كذلك الحال في السيرة العقلائيّة، لأنّها إنّما جرت علي رجوع الجاهل إلي العالم، و صاحب الملكة ليس بعالم فعلًا، فرجوع الجاهل إليه من قبيل رجوع الجاهل إلي مثله، هذا إذا لم يتصدّ للاستنباط بوجه، و أمّا لو استنبط من الأحكام شيئاً طفيفاً فمقتضي السيرة العقلائيّة جواز الرجوع إليه فيما استنبطه من أدلّته، فإنّ الرجوع إليه من رجوع الجاهل إلي العالم، فإنّ استنباطه بقيّة الأحكام و عدمه أجنبيان عمّا استنبطه بالفعل، نعم قد يقال: إنّ الأدلّة اللفظيّة رادعة عن السيرة، إذ لا يصدق عليه عنوان الفقيه أو العالم بالأحكام، و لكن الإنصاف أنّ الأدلّة اللفظيّة

لا مفهوم لها و إنّها غير رادعة.

هذا كلّه في جواز التقليد و عدمه، و أمّا نفوذ قضائه و عدمه فالصحيح عدم نفوذ قضائه و تصرّفاته في أموال القصر، و عدم جواز تصدّيه لما هو من مناصب الفقيه، و ذلك لأنّ الأصل عدمه، لأنّه يقتضي أن لا يكون قول أحد أو فعله نافذاً في حقّ الآخرين إلّا فيما قام عليه الدليل، و هو إنّما دلّ علي نفوذ قضاء العالم أو الفقيه أو العارف بالأحكام أو غيرها من العناوين الواردة في الأخبار، و لا يصدق شي ء من ذلك علي صاحب الملكة «1». (انتهي)

أقول: في ما أفاده مواقع للنظر:

أوّلًا: قد مرّ أنّ حصول ملكة الاجتهاد من دون ممارسة عملية مجرّد فرض لا واقع له خارجاً.

ثانياً: سلّمنا، و لكن لا إشكال في أنّ سيرة العقلاء لم تستقرّ علي الرجوع إلي مثله، و لا أقلّ من عدم إحرازها.

ثالثاً: أنّه لم يبيّن الفرق في كلامه بين جواز التقليد و جواز التصدّي للقضاء في جريان

______________________________

(1) التنقيح: ج 1، ص 32، طبعة مؤسسة آل البيت.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 549

سيرة العقلاء علي الرجوع في الأوّل دون الثاني، فإنّه لو فرض استقرار سيرة العقلاء علي رجوع الجاهل إلي صاحب الملكة في أمر التقليد، فكيف لم تستقرّ سيرتهم علي رجوع المتداعيين إليه في أمر القضاء؟ مع أنّ لازم جواز الرجوع إليه في أمر التقليد كونه عالماً و خبرة عندهم بمجرّد الحصول علي الملكة، و هذا صادق أيضاً بالنسبة إلي من له ملكة القضاء، و ما ذكره من أنّ الأصل عدم نفوذ قضاء أحد في حقّ، أحد- حقّ، و لكن يمكن إحراز النفوذ في مثل المقام بإطلاقات أدلّة القضاء و انصرافها إلي ما هو

متعارف عند العقلاء (إلّا ما خرج بالدليل) فإنّ القضاء ليس أمراً تأسيسيّاً للشرع، بل هو إمضاء لما عند العقلاء.

المسألة الرابعة: من مناصب المجتهد المطلق الولاية و الحكومة

إنّ من الواضحات و الامور البديهية في الشريعة حاجة المجتمع الإنساني إلي الحكومة و عدم إمكان تفكيكه عنها، و ذلك من باب أنّه بالحكومة يمكن تحقيق أهداف الشريعة المقدّسة التي لا يمكن الوصول إليها إلّا من طريق تشكيل الحكومة و تنفيذ الولاية.

و من تلك الأهداف المهمّة حفظ نظام المجتمع، فلا إشكال في لزوم اختلال النظام بدون الحكومة و هو ممّا لا يرضي الشارع به، بل هو من أهمّ الامور عنده.

و منها: تعليم النفوس الإنسانيّة و تربيتها.

و منها: إقامة القسط و العدل، و إحقاق حقوق الناس، فإنّه أيضاً من أهداف الشريعة المقدّسة.

و منها: إجراء بعض المراحل العالية للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و منها: تولّي القضاء، فإنّه أيضاً لا يمكن تحقّقه في الخارج من دون اعتضاده بالحكومة.

و منها: إجراء الحدود و التعزيرات.

و منها: حفظ حدود الممالك الإسلاميّة و ثغورها، فإنّها أيضاً لا تتحقّق إلّا بتشكيل الحكومة و العساكر.

فظهر أنّ أصل الحكومة أمر لازم ضروري.

ثمّ إنّ هذه الحكومة تأخذ مشروعيتها من ناحية الباري تعالي لا من جانب الناس

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 550

و آرائهم، و أمّا قانون الانتخاب في الحكومة الإسلاميّة فإنّه لمجرّد جلب مشاركة الناس في أمر الحكومة، التي هي من المقدّمات الواجبة لتحقيق الأهداف المزبورة، و لذلك نقول: لا بدّ من تنفيذ أمر رئيس الجمهورية بعد توفيقه في أخذ أكثرية الآراء من جانب الولي الفقيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هذا المنصب جعل من ناحية الإمام المعصوم عليه السلام للفقيه الواجد للشرائط المذكورة في محلّها، و يدلّ علي هذا الجعل وجوه عديدة، كما أنّ لولايته

مراحل و شئوناً مختلفة، ليس هنا محلّ ذكرها، و قد بحثنا عن هذه الشئون و تلك الوجوه تفصيلًا في كتاب أنوار الفقاهة، كتاب البيع، مبحث أولياء العقد، فراجع.

هذا كلّه في الجهة الاولي، و هي البحث في أحكام المجتهد المطلق.

الجهة الثانية: في أحكام المجتهد المتجزّي
اشارة

و قبل الورود فيها لا بدّ من بحث موضوعي و هو إمكان التجزّي في الاجتهاد و عدمه، و قد وقع الخلاف فيه بين الأصحاب، فقال بعض بأنّه ممكن، و قال بعض آخر بأنّه محال، و لنا نظرة اخري و هي أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً تحقّقه في الخارج من دون العبور عن طريق الاجتهاد المتجزّي.

و استدلّ القائلون بالاستحالة بوجهين:

أحدهما: أنّ الملكة من الكيفيات النفسانية و هي بسيطة لا تقبل القسمة و التجزّي.

ثانيهما: ربط المسائل الفقهيّة بعضها ببعض و عدم إمكان التفكيك بينها.

و يرد علي الوجه الأوّل: أنّ الملكة و إن لم تنقسم و لا تتجزّي، لكنّها ذات مراتب متفاوتة باعتبار تفاوت متعلّقاتها من حيث الصعوبة و السهولة و الكمال و النقص، فهي حينئذٍ ملكات كثيرة بعدد المسائل التي وقعت متعلّقة للملكة، و قد تحصل مرتبة ناقصة منها دون المرتبة الكاملة من دون تلازم بينهما في الوجود، و من هذا القبيل ملكة الاجتهاد، فإنّها كسائر الملكات تدريجية الحصول لا تصل إلي مرتبة أعلي إلّا بعد العبور عن المرتبة الأدني، و لا تتحقّق ملكة الاجتهاد في المسائل المعقّدة المشكلة إلّا بعد حصول القدرة علي استنباط المسائل الساذجة، كما أنّه كذلك في مثل ملكة المشي و التكلّم للصبي التي تبتدأ من مراحل ساذجة إلي مراحل

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 551

معقّدة، و هكذا في القدرة علي الطبابة، فإنّها تبتدأ من المعالجات البسيطة إلي مراحل معقّدة عميقة، بل قد

يكون الاجتهاد المطلق في بعض العلوم الجديدة كالطب من المحالات، فإنّ كلّ طبيب يمكن له أن يجتهد و يستنبط في مجال خاصّ من الطبابة.

إن قلت: إنّ قياس ملكة الاجتهاد في المسائل الفقهيّة بسائر الملكات مع الفارق، لأنّ مدارك الاستنباط و اصوله و قواعده في باب من الفقه متّحدة مع الاصول الجارية في أبواب اخر.

قلنا: أنّه كذلك، و لكن يمكن التفكيك في المسائل الاصوليّة أيضاً من حيث الصعوبة و السهولة، فيتطرّق التقسيم و التجزّي فيها، و لا إشكال حينئذٍ في ورود التجزّي إلي المسائل الفقهيّة التي تنطبق عليها، فمثلًا مسألة اجتماع الأمر و النهي من المسائل المشكلة في الاصول، و من لا يقدر علي حلّها و الاجتهاد فيها لا يقدر علي حلّ ما يرتبط بها من الفروعات الفقهيّة في باب الصّلاة و الصوم و الحجّ و غيرها. هذا أوّلًا.

و ثانياً: قد مرّ أنّ الإحاطة بعلم الاصول وحده لا تكفي لحصول ملكة الاجتهاد، بل لا بدّ من التمرين و الممارسة، و لا ريب في أنّ للممارسة مراحل مختلفة و درجات متفاوتة، و بحسبها يتجزّأ الاجتهاد في الفقه، و هذا هو ما ذكرنا من أنّ الاجتهاد المطلق يستحيل عادةً من دون العبور عن الاجتهاد المتجزّي.

و قد يقال: إنّ الوصول إلي الاجتهاد المطلق من دون طيّ مرحلة التجزّي يلزم منه الطفرة التي قضي العقل ببطلانها.

و لكن يمكن الجواب عنه: أنّ المراد من الطفرة تقديم ما هو في رتبة متأخّرة أو بالعكس، كتقديم ذي المقدّمة علي المقدّمة، و المعلول علي العلّة، و مثل رفع الأقدام المتأخّرة قبل الاقدام المتقدّمة في العلل الاعدادية، فهي تتصوّر فيما إذا كان هناك ترتيب عقلًا، و هو مفقود في ما نحن فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم

أنّه يبحث في أحكام المجتهد المتجزّي عن امور ثلاثة:

أحدها: جواز عمل المجتهد المتجزّي برأيه

و التحقيق فيه التفكيك بين صورتين:

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 552

الاولي: ما إذا اجتهد و استقرّ رأيه علي شي ء.

الثانية: ما إذا لم يجتهد، أو اجتهد و لكن لم يستقرّ رأيه بعد علي شي ء.

أمّا الصورة الاولي:

فلا ريب في وجوب تقليده لنفسه و العمل برأيه، و حرمة تقليده لغيره، لأنّه لا إشكال في كونه مخاطباً لأدلّة الاصول العمليّة و الأمارات الشرعيّة، مثل دليل «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»، و لازمه أنّه إذا اجتهد و استنبط مثلًا تنجّس الماء القليل تمّت الحجّة عليه في خصوص هذه المسألة من دون الحاجة إلي الإذن من مجتهد مطلق.

أمّا الصورة الثانية:

ففي جواز العمل برأيه فيها خلاف، ذهب صاحب المناهل إلي عدمه، و مقتضي اطلاق كلام الشيخ الأعظم رحمه الله في رسالته في الاجتهاد و التقليد هو الجواز، بل حرمة التقليد عن الغير، و تفصيل البحث في ذلك في محلّه.

ثانيها: جواز رجوع الغير إليه

و التحقيق فيه أن يقال: إنّه تارةً: يمكن له أن يجتهد في شي ء معتدّ به من الأحكام، بحيث يصدق عليه عنوان «من عرف حلالنا و حرامنا» أو «شيئاً من قضايانا» أو عنوان «أهل الذكر» و «من كان من الفقهاء»، كما إذا حصلت له ملكة الاجتهاد في أبواب المعاملات مثلًا، فلا ريب حينئذٍ في جواز تقليد الغير له، و الشاهد عليه بناء العقلاء علي العمل برأي الطبيب المتجزّي المتخصّص في فنّه، بل علي ترجيحه علي غيره، لكونه أعلم من غيره في هذه الناحية.

و اخري: يمكن له أن يجتهد مسائل طفيفة قليلة، ففي هذه الصورة لا تصدق عليه العناوين المزبورة، أي لا تشمله الأدلّة النقليّة الواردة في باب التقليد، نعم لا إشكال في جريان سيرة العقلاء و بنائهم علي تقليده، كما لا إشكال في عدم ثبوت الردع عنه بتلك الأدلّة النقلية، لأنّها ساكتة عنه، و نتيجته جواز تقليده في هذه الصورة أيضاً إذا كان واجداً لسائر شرائط التقليد.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 553

و الذي يسهل الخطب أنّ المتجزّي بهذا المعني لا مصداق له خارجاً، لأنّه قد مرّ أنّ من شرائط حصول الملكة، الممارسة في الاستنباط، و هي تحتاج إلي استنباط مسائل كثيرة، كما أنّه كذلك في مثل ملكة الطبابة و نحوها.

ثالثها: قضاء المجتهد المتجزّي

و قد فصّل بعض فيه بين من كانت له ملكة الاستنباط علي مقدار معتني به من الأحكام و من كان قادراً علي استنباط أحكام قليلة، و قال بجواز القضاء للأوّل دون الثاني، و ذلك لعدم شمول العناوين الواردة في مثل مقبولة عمر بن حنظلة و مشهورة أبي خديجة لمثله.

و لكن يمكن أن يستدلّ للجواز مطلقاً بوجوه عديدة:

منها: ما رواه أحمد عن أبيه رفعه عن

أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل قضي بجور و هو يعلم، فهو في النار، و رجل قضي بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضي بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضي بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة» «1».

فإنّ قوله عليه السلام: «قضي بالحقّ و هو يعلم» صادق علي المتجزّي مطلقاً بلا إشكال، نعم الإشكال في سندها لكونها مرفوعة.

و منها: بناء العقلاء، فإنّه استقرّ علي الرجوع بمن هو عالم بأحكام القضاء المتداولة بينهم سواء كان مجتهداً مطلقاً أو متجزّياً، و علي الثاني سواء كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلي مسائل معتدّ بها، أو كان له ملكة الاجتهاد بالنسبة إلي مسائل طفيفة قليلة، و لا إشكال في أنّ هذا البناء يخصّص ذلك الأصل الأوّلي، أي أصالة عدم نفوذ قضاء أحد علي أحد، كما لا إشكال في عدم رادعية الروايات المذكورة له، لأنّها تثبت جواز القضاء لمن كانت العناوين الواردة فيها صادقة عليه، و ليس لها مفهوم ينفي الجواز عمّن لم تكن تلك العناوين صادقة عليه، فتأمّل.

و منها: نفس مقبولة عمر بن حنظلة و رواية أبي خديجة من باب أنّه لا موضوعيّة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: الباب 4، من أبواب صفات القاضي، ح 6.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 554

للعناوين الواردة فيهما، بل إنّها طريق إلي من يكون قادراً علي القضاء، و عناوين مشيرة إلي اعتبار العلم بأحكام القضاء حتّي يكون قادراً عليه، فهما تعمّان المتجزّي أيضاً.

فظهر أنّه يجوز القضاء للمتجزّي حتّي لمن كان مجتهداً في مسائل قليلة، لكن الكلام في وجود هذا القسم من المتجزّي خارجاً كما مرّ سابقاً.

بقي

هنا شي ء:

و هو أنّه لا إشكال في عدم اعتبار الإذن من المجتهد المطلق في عمل المجتهد المتجزّي برأيه إذا كان مجتهداً في المباني الاصوليّة، و حصل له القطع بالحجّة بعد الاستنباط، نعم رجوع العامي إليه يحتاج إلي الإذن من المجتهد المطلق، أي لا بدّ له من التقليد عن المجتهد المطلق في خصوص هذه المسألة، أي مسألة جواز التقليد عن المجتهد المتجزّي، و إلّا دار، و هذا نظير ما يقال به في مسألة جواز تقليد غير الأعلم من أنّه لا بدّ في خصوص هذه المسألة من تقليد الأعلم، فإن أجاز هو تقليد غير الأعلم فهو، و إلّا فلا يجوز تقليد غير الأعلم، و هكذا بالنسبة إلي مسألة تقليد الميّت. فلا بدّ في خصوصها من تقليد الحي.

إلي هنا تمّ الكلام في الأمر الرابع بكلتا جهتيه (أحكام المجتهد المطلق و المتجزّي).

الأمر الخامس: مباني الاجتهاد

و قد ذكر بعضهم أنّ الاجتهاد في المسائل الشرعيّة يبتني علي علوم كثيرة ربّما تربو علي أربعة عشر علماً: علم اللغة، علم الصرف، علم النحو، علم التفسير، علم الرجال، علم الحديث، علم الدراية، علم الكلام، علم اصول الفقه، علم الفقه نفسه (ممارسة الفقه)، علم المنطق، الفلسفة، علم المعاني، علم البيان.

و لا بدّ من البحث أوّلًا: في أصل وجوب تحصيل كلّ واحد من هذه العلوم و اعتباره في الاجتهاد و الاستنباط، و ثانياً: في المقدار اللازم منه.

فنقول: أمّا علم اللغة، فلا ريب في لزومه أمّا اجتهاداً أو رجوعاً إلي أهل الخبرة، لأنّ عمدة الأدلّة هي الكتاب و السنّة، و هما صدرا بلسان عربي مبين، فلا بدّ من معرفة مواد اللغة العربية.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 555

و هكذا علم الصرف، لوضوح دخالته في فهم الكتاب و السنّة،

و علم النحو، لأنّ كلمة واحدة تستعدّ لمعانٍ مختلفة علي أساس إعرابات متفاوتة، فلا بدّ من معرفته حتّي تتميّز المعاني بعضها عن بعض، نعم اللازم منه ما يكون له أثر في اختلاف المعاني فحسب لا أكثر.

و بالجملة لكلّ واحد من هذه الثلاثة دخل في فهم المعاني، فإنّ علم اللغة يبيّن المادّة، و علم الصرف يبيّن هيئة الكلمة و علم النحو يبيّن هيئة الجملة.

و أمّا علم التفسير، فالمراد منه ما يكون وراء الثلاثة السابقة و هو الإحاطة بالآيات القرآنيّة، و ردّ بعضها إلي بعض، و معرفة المحكم و المتشابه، و الناسخ و المنسوخ، و غير ذلك من أشباهه فلا إشكال في دخله في استنباط الأحكام.

و أمّا علم الرجال، فلا حاجة إليه عند من يقول بحجّية الأخبار المدوّنة في الكتب المشهورة المعروفة، من الكتب الأربعة و غيرها، و هكذا عند القائلين بحجّية الأخبار الواردة في خصوص الكتب الأربعة، و أمّا بناءً علي مبني القائلين باعتبار الوثوق برجال السند أو الوثوق بالرواية (الذي قد يحصل من طريق الوثوق بالراوي و قد يحصل من طريق الموافقة لعمل المشهور، و قد يحصل من طريق علوّ المضامين، أو من طريق تظافر الروايات) فلا إشكال في لزوم علم الرجال و دخله في الاستنباط و الاجتهاد كما لا يخفي.

و أمّا علم الحديث فيكون بمنزلة علم التفسير، و مورداً للحاجة في طريق الاستنباط، لأنّ المراد منه معرفة لسان الرواية فإنّ لرواية الأئمّة المعصومين لسان خاصّ، و لحن مخصوص بها كالقرآن الكريم، يفترق عن لسان عبارات الفقهاء و العلماء و لحنها.

و أمّا علم الدراية، فلا إشكال في لزومه أيضاً، لأنّ المراد منه هو معرفة أقسام الرواية من حيث صفات الراوي من الصحيح و الحسن و

الضعيف و غيرها، و بما أنّ الميزان في حجّية الرواية هو الوثوق بالرواية و أحد طرق حصوله هو الوثوق برجال الحديث كما مرّ آنفاً فلا بدّ من معرفة أقسام الحديث علي أساس رجال السند.

و أمّا علم الكلام، فكذلك لا إشكال في لزومه لأنّ إثبات حجّية كلام المعصوم و فعله و تقريره متوقّف علي إثبات إمامته و عصمته في الرتبة السابقة، كما أنّ إثبات حجّية ظواهر الكتاب أيضاً مبنيّ علي إثبات حقّانيّة أصل الكتاب و هكذا …، و محلّ البحث عن مثل هذه الامور إنّما هو علم الكلام كما لا يخفي.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 556

إن قلت: لازم هذا البيان عدم صدق الاجتهاد و الاستنباط علي اجتهاد زنديق يكون من فحول علماء علم الاصول (فرضاً) و عالماً في سائر مباني الاستنباط، و هو كما تري.

قلنا: يعتبر في صدق الاجتهاد تحصيل العلم بالحجّة، و هو لا يحصل لمثل هذا المفروض، و بما أنّه فرض غير واقعي لا ينبغي البحث فيه أكثر من هذا.

و أمّا علم اصول الفقه، فلزومه و شدّة الحاجة إليه في الاستنباط من القضايا قياساتها معها، كما يلوح به تعريف علم الاصول بأنّه هو العلم بقواعد تقع في طريق الاستنباط.

إن قلت: فما دعوي الأخباريين في مقابل الاصوليين و عدّ بعضهم إيّاه من البدعة في الدين؟

قلنا: لا إشكال في أنّ قسماً من النزاع بين الطائفتين لفظي، لأنّ المحدّث الاسترآبادي نفسه مثلًا محتاج أيضاً في إثبات الأحكام الشرعيّة إلي حجّية خبر الواحد و حجّية ظواهر الألفاظ، و إلي ملاحظة إمكان الجمع الدلالي، ثمّ العلاج السندي عند تعارض الأدلّة، و إلي الرجوع إلي الاصول العمليّة عند فقدان النصّ (و لو كان الأصل عنده خصوص أصالة الاحتياط)

و لا يخفي أنّ هذه المسائل من أهمّ مسائل علم الاصول.

و يشهد عليه ملاحظة ما بحث عنه صاحب الحدائق (و هو من المحدّثين المعروفين) في مقدّمات الحدائق، و هي اثنتا عشرة مقدّمة في 170 صفحة، و من تلك المقدّمات حجّية خبر الواحد (و هو المقدّمة الثانية) و منها مدارك الأحكام الشرعيّة، و من جملتها حجّية ظواهر الكتاب و الإجماع و أصالة العدم و أصالة البراءة في الشبهات الوجوبيّة و مقدّمة الواجب، و مسألة أنّ الأمر بالشي ء مستلزم للنهي عن ضدّه أم لا؟ و قياس الأولوية، و قياس منصوص العلّة (و هذه كلّها هي المقدّمة الثالثة) و منها التعارض بين الأدلّة (و هو المقدّمة السادسة) و منها مسألة أنّ مدلول الأمر و النهي هل هو الوجوب و التحريم أو لا؟ (و هو المقدّمة السابعة) و منها ثبوت الحقيقة الشرعيّة و عدمه (المقدّمة الثامنة) و منها معني المشتقّ (المقدّمة التاسعة) و منها حجّية دليل العقل و عدمها (المقدّمة العاشرة) و قد ذكر في المقدّمة الحادية عشرة جملة من القواعد الفقهيّة فراجع.

فلا ريب في أنّ البحث و النزاع بين الطائفتين في هذا القسم من الاصولي لفظي.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 557

نعم هنا قسم من مباحث الاصول يقع النزاع فيه معنوياً، و قد حكي «1» صاحب الحدائق عن المحدّث الشيخ عبد اللّه البحراني صاحب كتاب منية الممارسين: أنّ موارد الاختلاف في هذا القسم تنتهي إلي ثلاثة و أربعين مسألة، و لكن الإنصاف أنّ هذا العدد ليس عدداً واقعياً، فإنّ كثيراً ممّا عدّه من موارد الاختلاف هي من شقوق دليل العقل، و تجمع تحت عنوان دليل العقل، و الصحيح أنّ العمدة من موارد النزاع بينهم هي امور ثلاثة:

أحدها:

في عدد الأدلّة، فإنّها عند الاصوليين أربعة: الكتاب و السنّة و الإجماع و دليل العقل، بينما هي عند الأخباريين الأوّلان خاصّة، و لكن قد مرّ أنّ الإجماع الحجّة عند الاصوليين يرجع في الحقيقة إلي السنّة، فهو ليس دليلًا برأسه، و أمّا دليل العقل فالبديهيات العقليّة و هكذا العلوم العقليّة التي استمدّت قضاياها من الحسّ، كالرياضيات فهي حجّة عند الجميع، فتبقي النظريات غير المعتمدة علي الحسّ، فالأخباريون ذهبوا إلي عدم حجّيتها لما ظهر من الخطأ في تاريخ العلوم في هذا القسم من المدركات العقليّة (و هو نفس ما استدلّ به المذاهب الحسّية و التجربية في الفلسفة الأوربية) و لذلك قالوا بعدم حجّية ما يدركه العقل في مثل مسألة مقدّمة الواجب و مسألة الترتّب و مسألة أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ و مسألة اجتماع الأمر و النهي و غيرها من أشباهها.

ثانيها: أصالة البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

ثالثها: حجّية ظواهر كتاب اللّٰه، فإنّ بعض الأخباريين ذهب إلي عدم حجّيتها إلّا بعد ضمّ تفسير الأئمّة المعصومين عليهم السلام إليها.

فقد ظهر أنّ موارد الاختلاف بينهم قليلة، و الإنصاف أنّ هذا المقدار من الخلاف أمر قهري طبيعي قد يكون بين الاصوليين أنفسهم أيضاً، فلا يوجب تشنيعاً و لا تكفيراً من جانب الأخباريين بالنسبة إلي الاصوليين أو بالعكس كما نبّه عنه المحدّث البحراني في المقدّمة الثانية عشرة، فالجدير بالمقام نقل كلامه في هذا المجال، و إليك نصّه في الحدائق: «و قد كنت في أوّل الأمر ممّن ينتصر لمذهب الأخباريين، و قد أكثرت البحث فيه مع بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين، و أودعت كتابي الموسوم بالمسائل الشيرازية مقالة مبسوطة مشتملة

______________________________

(1) الحدائق، ج 1، ص 170، المقدّمة الثانية عشرة.

الاجتهاد و

التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 558

علي جملة من الأبحاث الشافية و الأخبار الكافية تدلّ علي ذلك و تؤيّد ما هنالك، إلّا أنّ الذي ظهر لي- بعد إعطاء التأمّل حقّه في المقام و إمعان النظر في كلام علمائنا الأعلام- هو إغماض النظر عن هذا الباب، و إرخاء الستر دونه و الحجاب، و إن كان قد فتحه أقوام و أوسعوا فيه دائرة النقض و الإبرام:

أمّا أوّلًا: فلاستلزامه القدح في علماء الطرفين و الإزراء بفضلاء الجانبين، كما قد طعن به كلّ من علماء الطرفين علي الآخر، بل ربّما انجرّ إلي القدح في الدين، سيّما من الخصوم المعاندين، كما شنّع به عليهم الشيعة من انقسام مذهبهم إلي المذاهب الأربعة، بل شنّع به كلّ منهم علي الآخر أيضاً.

و أمّا ثانياً: فلأنّ ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جلّة بل كلّه عند التأمّل لا يثمر فرقاً في المقام … - إلي أن قال-.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ العصر الأوّل كان مملوءاً من المحدّثين و المجتهدين، مع أنّه لم يرتفع بينهم صيت هذا الخلاف، و لم يطعن أحد منهم علي الآخر بالاتّصاف بهذه الأوصاف، و إن ناقش بعضهم بعضاً في جزئيات المسائل، و اختلفوا في تطبيق تلك الدلائل، و حينئذٍ فالأولي و الأليق بذوي الإيمان، و الأحري و الأنسب في هذا الشأن هو أن يقال: أنّ عمل علماء الفرقة المحقّة و الشريعة الحقّة- أيّدهم اللّٰه تعالي بالنصر و التمكين و رفع درجاتهم في أعلي علّيين سلفاً و خلفاً- إنّما هو علي مذهب أئمّتهم صلوات اللّٰه عليهم و طريقهم الذي أوضحوه لديهم، فإنّ جلالة شأنهم و سطوع برهانهم و درعهم و تقواهم المشهور بل المتواتر علي مرّ الأيّام و الدهور يمنعهم من الخروج عن

تلك الجادّة القويمة و الطريقة المستقيمة، و لكن ربّما حادّ بعضهم أخبارياً كان أو مجتهداً عن الطريق غفلة أو توهّماً أو لقصور اطّلاع أو قصور فهم أو نحو ذلك في بعض المسائل، فهو لا يوجب تشنيعاً و لا قدحاً، و جميع تلك المسائل- التي جعلوها مناط الفرق- من هذا القبيل، كما لا يخفي علي من خاض بحار التحصيل، فإنّا نري كلًا من المجتهدين و الأخباريين يختلفون في آحاد المسائل، بل ربّما خالف أحدهم نفسه، مع أنّه لا يوجب تشنيعاً و لا قدحاً، و قد ذهب رئيس الأخباريين الصدوق (رحمه اللّٰه تعالي) إلي مذاهب غريبة لم يوافقه عليها مجتهد و لا أخباري، مع أنّه لم يقدح ذلك في علمه و فضله، أو لم يرتفع صيت هذا الخلاف و لا وقوع هذا الاعتساف إلّا من زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه اللّٰه تعالي برحمته

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 559

المرضيّة، فإنّه قد جرّد لسان التشنيع علي الأصحاب و أسهب في ذلك أي إسهاب، و أكثر من التعصّبات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب، و هو و إن أصاب الصواب في جملة من المسائل التي ذكرها في ذلك الكتاب، إلّا أنّها لا تخرج عمّا ذكرنا من سائر الاختلافات و دخولها فيما ذكرنا من التوجيهات، و كان الأنسب بمثله حملهم علي محامل السداد و الرشاد، إن لم يجد ما يدفع به عن كلامهم الفساد، فإنّهم رضوان اللّٰه عليهم لم يألوا جهداً في إقامة الدين و إحياء سنّة سيّد المرسلين صلي الله عليه و آله، و لا سيّما آية اللّٰه العلّامة رحمه الله الذي قد أكثر من الطعن عليه و الملامة، فإنّه بما ألزم به علماء الخصوم و المخالفين

من الحجج القاطعة و البراهين حتّي آمن بسببه الجمّ الغفير، و دخل في هذا الدين الكبير و الصغير و الشريف و الحقير، و صنّف من الكتب المشتملة علي غوامض التحقيقات و دقائق التدقيقات، حتّي أنّ من تأخّر عنه لم يلتقط إلّا من درر نثاره، و لم يغترف إلّا من زاخر بحاره، قد صار له من اليد العليا عليه و علي غيره من علماء الفرقة الناجية ما يستحقّ به الثناء الجميل و مزيد التعظيم و التبجيل لا الذمّ و النسبة إلي تخريب الدين، كما اجترأ به قلمه عليه رحمه الله و علي غيره من المجتهدين» «1» (انتهي).

و أمّا علم الفقه نفسه، أي ممارسة الفقه فقد يتوهّم أنّه لا معني لكونه من مباني الاجتهاد من باب أنّه يكون غاية لغيره و ذا المقدّمة بالنسبة إلي سائره، و لكن قد مرّ كراراً أنّ ملكة الاجتهاد لا تتحقّق إلّا بالتمرين و الممارسة في الفقه كما في غالب العلوم، و هي تحصل أوّلًا: بتطبيق الاصول علي الفروع، و ثانياً: بردّ الفروع إلي الاصول، فإذا سئل عنه مثلًا عن رجل صلّي الظهرين و هو يعلم إجمالًا بأنّه كان في أحدهما فاقداً للطهارة، فليعلم أنّه هل يجب عليه الاحتياط فيكون المورد من موارد تطبيق قاعدة الاحتياط، أو أنّه من موارد تطبيق قاعدة 6565 الفراغ؟ و أنّه هل يكون الترتيب بين الظهر و العصر ترتيباً واقعيّاً، أو لا؟ فيكفي إتيان صلاة رباعية بقصد ما في الذمّة، أو سئل عمن صار مستطيعاً و قد استُؤجر سابقاً لمناسك الحجّ فهل يبطل عقد الإجارة أو لا؟ من باب عدم كونه مستطيعاً شرعاً و الممنوع شرعاً كالممنوع عقلًا، و هكذا … إلي سائر الفروعات و المسائل.

و أمّا

علم المنطق، فقد يقع الشكّ في الحاجة إليه، لأنّ المقدار اللازم منه أمر فطري لكلّ

______________________________

(1) الحدائق الناضرة: ج 1 ص 167- 170.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 560

إنسان فإنّ عمدة المنطق إنّما هي الأشكال الأربعة، و جلّ استدلالات الناس (لو لا كلّها) ترجع إلي الشكل الأوّل، و قد ذكروا أنّه بديهي الإنتاج، و أمّا السائر المسائل فقلّما يتّفق الحاجة إليها في الفقه، نعم الإحاطة ببعض المصطلحات فيها ربّما توجب سهولة الأمر في بيان الاستدلالات، كالإحاطة بالنسب الأربعة و الكلّيات الخمس و الوَحَدات المعتبرة في التناقض و غيرها.

و هكذا الفلسفة، فلا دخل لها بعلم الفقه لأنّها تبحث عن الامور الحقيقيّة، بينما الفقه يبحث عن الاعتباريات، نعم يمكن أن يقال: أنّ لها تأثيراً في الفقه من باب تأثيرها في علم الكلام فليس لها دخل مباشرة و بلا واسطة.

هذا- و قد أوجد الخلط بين مسائلها و مسائل اصول الفقه غوامض و تعقيدات كثيرة قد أشرنا إلي بعضها في بعض الأبحاث السابقة، و من تلك المسائل الفلسفية التي أوردوها في الاصول قاعدة الواحد، مع أنّه قد قرّر في محلّه أنّها مختصّة بالواحد البسيط الحقيقي، و لا مساس لها بالاعتباريات، و منها قاعدة عدم جواز الجمع بين النقيضين في باب اجتماع الأمر و النهي، مع أنّه أيضاً يتكلّم عن الحسن و القبح في الاعتباريات لا عن الإمكان و الاستحالة في الحقائق، و لا استحالة في اعتبار النقيضين، و منها تنزيلهم الحكم و الموضوع بمنزلة العرض و المعروض و إسراء أحكامهما عليهما، و منها أحكام العلّة و المعلول في باب الواجب المشروط و باب تداخل الأسباب الشرعيّة.

نعم، قد يلزم البحث عنها في عصرنا هذا للمنع عن هذا التداخل.

و أمّا علم

المعاني و البيان فغاية ما قد يقال في تأثيره في الاستنباط و الاجتهاد: أنّ من المرجّحات في الخبرين المتعارضين البلاغة و الفصاحة، مع أنّ الصحيح أنّهما ليسا من المرجّحات، لأنّ كلمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام مختلفة، قسم منها عبارة عن الخطب و المواعظ، و قد أعملوا فيها قواعد الفصاحة و البلاغة و بدائعها، نظير خطب نهج البلاغة و أدعية الصحيفة السجّادية و أشباهها.

و قسم آخر صدر لبيان الأحكام الفرعيّة و المسائل العمليّة، فلم يصدر عنهم صلوات اللّٰه عليهم ببدائع الفصاحة و البلاغة كما لا يخفي علي الخبير، و في الواقع القسم الأوّل نظير الآيات القرآنية، بينما يكون القسم الثاني شبيه الأحاديث القدسية الإلهيّة.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 561

هذا مضافاً إلي ما قد مرّ سابقاً من وجوب الاقتصار علي المرجّحات المنصوصة (و ليس هذا منها).

نعم، هاهنا أبحاث من علم المعاني و البيان كمسألة تقديم ما حقّه التأخير، و أبواب المجاز و الحقيقة و الكنايات و الاستعارات، يكون لها دخل في فهم الأحكام عن الأدلّة اللفظيّة، و لكنّها مسائل يبحث عنها في علم الاصول أيضاً، و أمّا غيرها من سائر مسائل هذا العلم فلا أثر لها في الاستنباط، نعم قد يقال: إنّ لها أثراً مع الواسطة من حيث دخلها في تبيين كون كتاب اللّٰه معجزة خالدة.

بقي هنا أمران:

الأوّل: لا شكّ في أنّ القواعد الفقهيّة لها دور عظيم في استنباط الأحكام الفرعيّة، و لعلّ عدم ذكرها في العلوم التي يبتني عليها الاستنباط من باب عدّهم إيّاها من الفقه نفسه، و لكن قد ذكرنا في محلّه أنّها علم برأسه و ليست من اصول الفقه، كما أنّها ليست من الفقه نفسه فراجع «1».

الثاني: لا ينبغي الشكّ في أنّ

للزمان و المكان دخلًا في الاجتهاد.

و توضيحه: أنّ لكلّ حكم موضوعاً، و المعروف في الألسنة أنّ تشخيص الموضوع ليس من شئون الفقيه، و لكن الصحيح أنّه لا يمكن للفقيه تجريد الذهن و تفكيك الخاطر عنه، فإنّ لموضوعات الأحكام مصاديق معقّدة غامضة لا يقدر العوام علي تشخيصها، بل لا بدّ للفقيه تفسيرها و تبيين حدودها و خصوصياتها، كما يشهد علي ذلك أنّ كثيراً من الفروعات المعنونة في الكتب الفقهيّة (كالمبسوط للشيخ، و القواعد للعلّامة، و العروة الوثقي للسيّد اليزدي رحمهم الله) هي من هذا القبيل.

و إن شئت قلت: إن كان المراد من الموضوع في المقام هو الموضوعات الجزئيّة، أي مصاديق الموضوعات الكلّية للأحكام، كمصاديق الدم و الخمر و الماء المطلق و المضاف

______________________________

(1) راجع مقدّمة المجلّد الأوّل من القواعد الفقهيّة.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 562

و غيرها فإنّه كذلك، أي ليس تشخيصها من شئون الفقيه، و أمّا إن قلنا بأنّ المراد منه هو نفس الموضوعات الكلّية الواردة في لسان الأخبار فلا إشكال في أنّ تشخيصها و تعيين حدودها من شئون الفقيه.

و بعبارة أدقّ: أنّ هذا القسم من الموضوعات- في الواقع- يستنبطها الفقيه بارتكازه العرفي، و يستخرجها و يأخذها من بين العرف بما أنّه من أهل العرف، ثمّ يرجعها إلي العرف و يجعلها بأيديهم بعد تفسير الخصوصيات و تبيين حدودها، و إن شئت فانظر إلي فتاوي الفقهاء مثلًا في ما يصحّ السجود عليه، فقد ورد في الدليل أنّه يجوز السجود علي الأرض و ما يخرج منها إلّا ما أكل و ما لبس، فهذا عنوان عرفي، و قد تكلّم فقهاؤنا رضوان اللّٰه عليهم في مصاديقه و أنّه أي شي ء يعدّ من المأكول و الملبوس و أي شي ء لا

يعد منهما فقد يكون هناك مصاديق لا يقدر العرف علي تشخيص أنّها منهما أو ليست منهما، و لذا أورد المحقّق اليزدي رحمه الله في هذا الباب من العروة الوثقي فروعاً كثيرة لتبيين هذه المصاديق المشتبهة كجواز السجود و عدمه علي الامور التالية:

1- الأدوية و العقاقير كلسان الثور.

2- قشر الفواكه.

3- تفالة الشاي.

4- نخالة الحنطة.

5- نواة الفواكه.

6- ورق الكرم بعد اليبوسة و قلبها.

7- ما يؤكل في بعض الأوقات دون بعض.

8- ما هو مأكول في بعض البلاد دون بعض.

9- النبات الذي ينبت علي وجه الماء (فهل هو داخل في عنوان «ما أنبته الأرض» الوارد في الرواية أو لا؟).

10- التنباك … إلي غير ذلك من أشباهها.

إن قلت: كيف يكون رجوع العوام إلي الفقيه في هذا القسم من المصاديق من قبيل رجوع الجاهل إلي العالم؟ أي كيف تشملها أدلّة التقليد؟

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 563

قلنا: إنّ أدلّة التقليد تشملها و يكون الرجوع فيها من قبيل رجوع الجاهل إلي العالم من باب أنّه ليس لها متخصّص و خبير غير الفقيه، نعم لو كانت هناك موضوعات يكون لها في العرف خبراء معروفون يجب الرجوع إليهم دون الفقيه.

و من الأمثلة التي يمكن أن تذكر في هذا المجال عنوان النظر المحرّم إلي الأجنبيّة فإنّه أيضاً من الموضوعات المشكلة من باب أنّ لها مصاديق معقّدة مبهمة، فهل يصدق علي النظر إلي تصوير الأجنبي في المرآة مثلًا أو الماء الصافي أو في تلفزيون عنوان النظر إلي الأجنبية أو لا؟

هذا من ناحية، و من ناحية اخري نعلم أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها متابعة الظلّ لذي الظلّ و قد يتبدّل الموضوع بتبدّل الزمان أو المكان، فتري الماء في المفازة و الصحاري مالية فيجوز بيعه فيها، بينما لا

يكون له مالية علي الشاطئ، فيبطل بيعه (هذا من قبيل دخل المكان في الموضوع) و تري الشيخ رحمه الله يجوّز بيع الثلج في الصيف دون الشتاء لكونه مالًا في الأوّل دون الثاني (و هذا من قبيل دخل الزمان في الموضوع).

و من أمثلتها الواضحة في يومنا هذا الدم الذي كان بيعه و شراؤه حراماً في الأزمنة السابقة باعتبار عدم وجود منفعة محلّلة معتدّ بها له. و لكن الآن لا إشكال في جواز بيعه و شرائه لما له من منافع محلّلة مقصودة، حيث لا تنحصر منافعه في الأكل المحرّم أو الصبغ الذي يعدّ من المنافع النادرة، فإنّ الدم في يومنا هذا عنصر حياتي يمكن به إنقاذ نفس إنسان من التهلكة، و لذا تكون له ماليّة عظيمة محلّلة معتدّ بها لنجاة المصدومين و الجرحي و كثير من المرضي، لا سيّما في العمليات الجراحيّة فلِما لا يجوز بيعه في زماننا و الحال هذا؟ و كذا بيع الكُلْية و شرائها لنجاة بعض المرضي الذين فسدت كِليَتهم، مع أنّها بعد فصلها عن صاحبها تكون بحكم الميتة، و لا سيّما أنّها من غير المأكول، فلم يكن بيعها في الأزمنة السابقة جائزاً لعدم منفعة محلّلة لها، و لكن الآن جاز بيعها في زماننا هذا لتغيّر الموضوع و تبدّله، و لذا يشترونها بالأثمان الغالية جدّاً (نعم قد يقال: إنّها و إن جاز بيعها من هذه الناحية أي كونها ذات منفعة محلّلة مقصودة، و لكن لا يجوز بيعها من باب حرمة بيع الميتة من كلّ شي ء و إن كان لها منفعة مقصودة، للنصوص الخاصّة الواردة فيها، فالواجب حينئذٍ عدم جواز أخذ الثمن في مقابل نفسها بل في مقابل إجازة التصرّف في بدن صاحب الكِلوة فتأمّل

جيّداً).

و من أمثلتها في عصرنا ما قد يقال في مسألة تقليل المواليد و أنّها كانت مرجوحة في

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 564

الأعصار السابقة، بينما هي راجحة في زماننا، لا أقلّ في بعض البلاد التي تكون كثرة النفوس فيها موجبة للفقر الشديد و التأخّر و المفاسد الأخلاقيّة العظيمة.

فإنّ ما ورد في الترغيب علي تكثير النسل و المواليد كالنبوي المعروف: «تناكحوا تكثروا فإنّي اباهي بكم الامم يوم القيامة و لو بالسقط» «1» ناظرة إلي الأعصار السابقة التي كانت كثرة النفوس فيها سبباً للقدرة و السلطة، فما كان من الجوامع الإنسانيّة أكثر نفراً كان أشدّ قدرة و أكثر قوّة كما يشهد عليه قوله تعالي: «كٰانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوٰالًا وَ أَوْلٰاداً» «2». و قوله تعالي: «وَ قٰالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوٰالًا وَ أَوْلٰاداً» «3»، و قوله تعالي: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيٰاةُ الدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي الْأَمْوٰالِ وَ الْأَوْلٰادِ» «4» و قوله تعالي: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ … وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ» «5» فهذه الآيات تدلّ بظاهرها علي أنّ كثرة الأولاد كانت موجبة للقدرة و الشوكة كما كانت كثرة الأموال أيضاً كذلك، و مثل النبوي المعروف قد ورد في مثل هذا الظرف من المجتمع الإنساني، فهذه الخصيصة الاجتماعية الموجودة في عصر صدوره تكون بمنزلة قرينة لبّية قد توجب انصرافه إلي خصوص ذلك الزمان، و هذه الدعوي و إن لم تكن ثابتة بالقطع و اليقين، و لكنّها قابلة للدقّة و التأمّل.

فقد ظهر ممّا ذكر دخل الزمان و المكان في الاجتهاد و الاستنباط لكن لا علي نحو دخلهما في الحكم بلا واسطة بل من طريق دخلهما في الموضوع، فإنّ الأحكام ثابتة

إلي الأبد، «و حلال محمّد صلي الله عليه و آله حلال إلي يوم القيامة و حرامه حرام إلي يوم القيامة»، و المتغيّر علي مرّ الدهور و الأزمان، و المتبدّل في الأمكنة و الأقطار إنّما هو الموضوعات، و بتبعها تتغيّر الأحكام قهراً.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 103 ص 220 ح 24.

(2) سورة التوبة: الآية 69.

(3) سورة سبأ: الآية 35.

(4) سورة الحديد: الآية 20.

(5) سورة نوح: الآية 12.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 565

الأمر السادس: التخطئة و التصويب

اشارة

و المراد من التخطئة أنّه عند اختلاف الآراء لا يكون الصواب إلّا واحد منها فيكون الباقي خطأً، و بعبارة اخري: أنّ للّٰه تعالي في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه الكلّ، العالم و الجاهل، فمن أصابه أصابه و من أخطأه أخطأه.

و المراد من التصويب أنّه عند اختلاف الآراء كلّها أحكام اللّٰه و كلّها صواب.

و التحقيق في المسألة يستدعي رسم امور:

الأمر الأوّل: لا إشكال و لا كلام في بطلان التصويب في الأحكام العقليّة الحقيقيّة و المحسوسة فيكون الرأي الصحيح فيها واحداً بالإجماع، كما إذا وقع الاختلاف بين المنجّمين في عدد سيّارات المنظومة الشمسية أو بين الأطباء في تشخيص كيفية مرض زيد مثلًا و تعيين الدواء له، و الوجه في ذلك أنّ الواقع شي ء واحد فلا يمكن انقلابه إلي مؤدّي آراء المجتهدين، و لا فرق بين أن يكون متعلّق الحكم من الجواهر و الأعراض كالمثالين المذكورين أو من الامور نفس الآمرية كاستحالة الجمع بين الضدّين (حيث إنّه لا يكون لا من الاعتباريات و لا من الامور الخارجيّة التكوينيّة).

نعم نقل عن عبد اللّه بن حسن العنبري التصويب في العقليات أيضاً (علي ما حكي عن كتاب اصول الأحكام للآمدي و المستصفي للغزالي) و لا توجيه لكلامه إلّا أنّ

الفقيه معذور، فلو حكم فقيه بكرّية هذا الماء و فقيه آخر بعدم كريّته، أو حكم أحدهما بطلوع الفجر و الآخر بعدمه فلا إشكال في عدم كون كليهما صادقين بل كلّ منهما معذور في حكمه و لا عقاب عليه علي فرض خطئه إذا لم يكن مقصّراً.

الأمر الثاني: ينقسم التصويب في الشرعيات إلي أربعة أقسام:

1- ما هو باطل عقلًا.

2- ما ليس بباطل عقلًا و لكن يكون مجمعاً علي بطلانه.

3- ما ليس بباطل عقلًا و لا مجمعاً علي بطلانه و لكن الأقوي بطلانه.

4- ما يكون خارجاً عن هذه الأقسام الثلاثة و لا إشكال في صحّته.

أمّا التصويب الباطل عقلًا (أي القسم الأوّل) فهو إنّ اللّٰه ينشأ أحكاماً إلهيّة علي وفق آراء المجتهدين بعد اجتهادهم، و الوجه في بطلانه عند العقل أنّه لا بدّ للطلب من مطلوب، فلو

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 566

كان اللّٰه تعالي يجعل الحكم بعد اجتهاد المجتهد، و المجتهد يطلب في استنباطه حكم اللّٰه الواقعي فما هو مطلوبه؟

و بعبارة اخري: يستلزم منه الدور المحال لأنّ اجتهاد المجتهد متفرّع علي وجود حكم قبله، و المفروض أنّ الحكم أيضاً متوقّف علي اجتهاده، و قد يسمّي هذا بتصويب الأشعري، و ليس بذلك، كما سيأتي بيانه.

و أمّا القسم الثاني: (و هو ما يكون مجمعاً علي بطلانه) فهو أنّ اللّٰه تعالي ينشئ أحكاماً عديدة بعدد آراء المجتهدين قبل اجتهادهم، فيكون كلّ مجتهد طالباً في استنباطه لحكمه الذي جعله اللّٰه تعالي في حقّه، و هذا و إن لم يكن محالًا عقلًا و لكنّه مجمع علي بطلانه عند الإمامية، حيث إنّهم يعتقدون أنّ لكلّ واقعة حكماً واقعياً واحداً للعالم و الجاهل، أصابه المجتهد أو لم يصيبه، و قد يسمّي هذا بتصويب المعتزلي

و ليس بذلك، كما سيأتي بيانه أيضاً.

و أمّا القسم الثالث: فهو أن يكون حكم اللّٰه تعالي في مقام الإنشاء واحداً و لكنّه متعدّد في مقام الفعليّة لأنّ طرقه الشرعيّة متعدّدة و يكون كلّ طريق سبباً لإيجاد المصلحة في مؤدّاه فيكون منشأ التعدّد في الأحكام الفعلية هو القول بسببيّة الأمارات، و قد مرّ أنّ الصحيح المختار بطلان السببيّة، و أنّ المستفاد من أدلّة حجّية الأمارات إنّما هو الطريقيّة فحسب، فالأقوي بطلان هذا القسم و إن لم يكن باطلًا عقلًا و لا مجمعاً علي بطلانه.

و أمّا القسم الرابع: فهو التصويب في الأحكام الظاهريّة الذي يوافق مبني القائلين بأنّ أدلّة حجّية الأمارات و إن لم تكن سبباً لإيجاد المصلحة و لكنّها توجب جعل حكم ظاهري مماثل كما هو المختار، و هو الظاهر من كلمات المشهور و فتاواهم، و قد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت من المكلّف و هذا ما يعبّر عنه بالمصلحة السلوكيّة.

هذا هو المختار في معني الطريقيّة، و هناك قول آخر بأنّ المراد من الطريقيّة هو جعل المنجّزية و المعذّرية مع القول بالمصلحة السلوكيّة، و علي كلّ حال يكون القول بالطريقيّة خارجاً عن التصويب بأي معني فرض كما سيأتي.

الأمر الثالث: في أنّ هذا التقسيم الرباعي ناشٍ من وقوع خلط في معنيي الاجتهاد، و هو الخلط بين الاجتهاد بالمعني العام و الاجتهاد بالمعني الخاصّ، و إلّا يكون التقسيم ثلاثياً.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 567

توضيح ذلك: قد مرّ أنّ الاجتهاد بالمعني العام هو استنباط الحكم عن أدلّته التفصيليّة و أنّ الاجتهاد بالمعني الخاصّ هو تقنين المجتهد و تشريعه فيما لا نصّ فيه، و لا إشكال في عدم لزوم التصويب المحال

بناءً علي الاجتهاد بالمعني الخاصّ لأنّه ليس فيما لا نصّ فيه حكم علي زعمهم حتّي يقال بأنّه لا بدّ للطلب من مطلوب، و قد نصّ علي ذلك الغزالي في مستصفاه، و قال: «إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظنّ، و حكم اللّٰه تعالي علي كلّ مجتهد ما غلب علي ظنّه، و هو المختار، و إليه ذهب القاضي، و ذهب قوم من المصوّبة إلي أنّ فيه حكماً معيّناً يتوجّه إليه الطلب، إذ لا بدّ للطلب من مطلوب، لكن لم يكلّف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيباً و إن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته، بمعني أنّه أدّي ما كلّف فأصاب ما عليه» «1».

و قد نسب مؤلّف الاصول العامّة القول الأوّل إلي محقّقي المصوّبة، و قال بعد ذلك: «و قد عرف القسم الأوّل من التصويب علي ألسنة بعض الباحثين من الاصوليين بالتصويب الأشعري كما عرف القسم الثالث بالتصويب المعتزلي» «2».

فظهر أنّه بناءً علي ما ذهب إليه مشاهير المصوّبة أنّه لا موضوع للقسم الأوّل من التصويب فيكون التقسيم ثلاثيّاً، نعم أنّه رباعي بناءً علي قول غيرهم، كما ظهر أنّ التصويب الأشعري هو هذا المعني المنسوب إلي مشاهير المصوبة، لا ما مرّ من القسم الأوّل، و أنّ التصويب المعتزلي هو نفس ما عليه المخطئة لا القسم الثاني من الأقسام الأربعة السابقة.

و الحاصل أنّ الاشتباه في دعوي استحالة القسم الأوّل من التصويب نشأ من توهّم كون المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد بالمعني المعروف، أي استفراغ الوسع في كشف الحكم الشرعي عن أدلّتها، بينما ليس مرادهم ذلك، بل الاجتهاد عندهم هو استفراغ الوسع في طلب المصالح و الفاسد و تشريع الأحكام

علي وفقها من ناحية المجتهد فليس هناك حكم واقعي يطلبه المجتهد حتّي يلزم المحال.

ثمّ إنّ للغزالي هنا في توجيه نظره كلاماً حاصله ما يلي: الكلام الكاشف للغطاء رحمه الله عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول: المسائل منقسمة إلي ما ورد فيها نصّ و ما لم يرد، أمّا ما ورد فيه

______________________________

(1) الاصول العامّة للفقه المقارن: ص 617.

(2) المصدر السابق.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 568

نصّ، فالنصّ كأنّه مقطوع به من جهة الشرع، لكن لا يصير حكماً في حقّ المجتهد إلّا إذا بلغ و عثر عليه، و أمّا إذا لم يبلغه و لم يعثر عليه فليس هو حكماً في حقّه إلّا بالقوّة، لأنّ الحكم الفعلي عبارة عن النصّ البالغ المعثور عليه، و أمّا ما لم يرد فيه نصّ فيعلم أنّه لا حكم فيها لأنّ حكم اللّٰه تعالي خطابه، و خطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدلّ عليه دليل قاطع من فعل النبي صلي الله عليه و آله أو سكوته، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع و لا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ «1».

أقول: إنّ هذا التقسم قد نشأ من الخلط بين مراتب الحكم الثلاثة:

مرتبة الجعل، و هي مرحلة الإنشاء، نظير ما يصوّب في مجالس التقنين في زماننا هذا قبل الإبلاغ إلي الدولة و الموظفين للإجراء، فإنّه و إن كان مصوباً في هذه المجالس و لكن لا يكلّف المواطنون بالعمل به إلّا بعد إبلاغه رسميّاً إلي الدولة.

و مرحلة الفعليّة و هي مرحلة الإبلاغ و البعث أو الزجر فيلزم العمل علي طبقه.

و مرحلة التنجيز، و هي مرحلة استحقاق العقاب في صورة ترك العمل، و هي لا تشمل الجاهل القاصر أو العالم العاجز عن العمل به

و أمثالهما.

في بطلان القسم الأوّل من التصويب (التصويب الأشعري)
اشارة

إذا عرفت هذه الامور الثلاثة فاعلم: أنّ الحقّ بطلان التصويب بالمعني الذي اشتهر بين المصوّبة (أي التصويب الأشعري) لأنّ هذا المعني من التصويب يبتني علي أمرين:

1- وجود وقائع خالية عن الحكم.

2- أن يكون اختيار التقنين بيد الفقيه فيكون من شئون الفقيه جعل الحكم و تقنين الأحكام فيما لا حكم فيه، ذلك الأمر الذي يعبّر عنه أخيراً بالتشريع الإسلامي، و الذي يذكر له مصادر و منابع.

و كلا الأمرين قابل للمناقشة و المنع:

______________________________

(1) الاصول العامة للفقه المقارن: ص 618.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 569

أمّا الأمر الأوّل: فلما مرّ في بيان بطلان الاجتهاد بمعني التشريع و التقنين من ناحية المجتهد إجمالًا، و تفصيله: إنّا نقول: كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلي يوم القيامة فقد ورد فيه حكم، و الدليل عليه:

أوّلًا: كتاب اللّٰه الكريم أي قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» «1»، و قوله تعالي: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2» و قوله تعالي: «وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»، فلو كانت بعض الوقائع خالية عن الحكم لما كان الدين كاملًا، و النعمة تامّة، و لم يكن الكتاب تبياناً لكلّ شي ء (لأنّه لو لم يكن تبياناً للمسائل الجزئيّة الخارجيّة كمسائل العلوم الفلكيّة و الطبيعيّة و نحوهما فلا أقلّ من كونه تبياناً للمسائل الكلّية الشرعيّة)، بل كان الدين ناقصاً فاستعان سبحانه (العياذ باللّٰه) من خلقه علي إتمامه و إكماله، و لزم من ذلك مفاسد جمّة سنشير إليها.

و ثانياً: الروايات الكثيرة الواردة من ناحية أئمّة أهل البيت عليهم السلام، و هي علي طوائف أربعة:

الطائفة الاولي: حديث الثقلين الذي تواتر نقله بين الفريقين، فإنّه روي باسناد عديدة في الكتب المعروفة من

الشيعة و أهل السنّة، و ينبغي نقل واحدٍ منها من باب التيمّن و التبرّك، و هو ما ورد في صحيح الترمذي قال: «حدّثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي حدّثنا زيد بن الحسن و هو الأنماطي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر بن عبد اللّه قال: رأيت رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله في حجّته يوم عرفة و هو علي ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا كتاب اللّٰه و عترتي أهل بيتي» «4».

و من أراد الوقوف علي مجموعها فليراجع إلي جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب 4، ح 189 إلي ح 209.

و لا إشكال في أنّه نصّ علي كفاية الرجوع إلي كتاب اللّٰه و العترة ليؤمن عن الخطأ و لا

______________________________

(1) سورة المائدة: الآية 3.

(2) سورة الأنعام: الآية 38.

(3) سورة النحل: الآية 89.

(4) جامع أحاديث الشيعة: ج 1، الباب 4، ح 202.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 570

يكون الضلال في شي ء، و لازمه عدم خلوّ الوقائع عن الأحكام الإلهيّة كما لا يخفي.

الطائفة الثانية: ما تدلّ علي أنّ للّٰه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه جميع الامّة، و قد نقلها الكليني رحمه الله في المجلّد الأوّل من اصول الكافي في باب «الردّ إلي الكتاب و السنّة و أنّه ليس شي ء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه إلّا و قد جاء فيه كتاب أو سنّة»، و الشيخ الحرّ العاملي رحمه الله في المجلّد الثاني عشر من كتاب الوسائل الباب 12 من أبواب صفات القاضي و هي روايات كثيرة:

منها: ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال سمعته

يقول: «إنّ اللّٰه تبارك و تعالي لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة إلّا أنزله في كتابه و بيّنه لرسوله صلي الله عليه و آله و جعل لكلّ شي ء حدّاً و جعل عليه دليلًا يدلّ عليه، و جعل علي تعدّي ذلك الحدّ حدّاً» «1».

و منها: ما رواه حمّاد بن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة» «2».

و منها: ما رواه المعلّي بن خنيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّٰه عزّ و جلّ، و لكن لا تبلغه عقول الرجال» «3» (أي لا بدّ أن يسأل من الأئمّة المعصومين خلفاء رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله).

و منها: ما رواه سماعة عن أبي الحسن الموسي عليه السلام قال: «قلت له: أ كلّ شي ء في كتاب اللّٰه و سنّة نبيّه صلي الله عليه و آله أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شي ء في كتاب اللّٰه و سنّة نبيّه صلي الله عليه و آله» «4».

و منها: ما ورد في حديث حجّة الوداع: «يا أيّها الناس: و اللّٰه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النار إلّا و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه» «5».

و منها: ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: أيّها

______________________________

(1) اصول الكافي: ج 1، ص 59، ح 2.

(2) المصدر السابق: ح 4.

(3) المصدر السابق: ح 6.

(4) المصدر السابق: ح 10.

(5) المصدر السابق: ص 74، ح 2.

الاجتهاد و التقليد

(أنوار الأصول)، ج 3، ص: 571

الناس … (إلي أن قال): ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق لكم، أخبركم عنه: أنّ فيه علم ما مضي و علم ما يأتي إلي يوم القيامة، و حكم ما بينكم و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلّمتكم» «1».

و منها: ما رواه سليمان بن هارون قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: ما خلق اللّٰه حلالًا و لا حراماً إلّا و له حدّ كحدّ الدار … حتّي أرش الخدش فما سواه و الجلدة و نصف الجلدة» «2».

و منها: ما رواه مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّٰه تبارك و تعالي أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتّي و اللّٰه ما ترك اللّٰه شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّي لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أُنزل في القرآن إلّا و قد أنزله اللّٰه فيه» «3».

إلي غير ذلك من أشباهها و نظائرها، و قد نقل جملة منها (ثماني روايات) المحدّث البحراني أيضاً في تفسير البرهان (المجلّد الأوّل ص 14) فراجع.

و لا يخفي أنّ المستفاد من هذه الطائفة أنّ للّٰه في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم و الجاهل، و علي هذا المعني، التواتر المعنوي من الروايات (لا اللفظي كما هو ظاهر بعض الكلمات).

الطائفة الثالثة: روايات متظافرة تدلّ علي وجود كتاب عند الأئمّة المعصومين عليهم السلام كان بإملاء رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و خطّ علي عليه السلام فيه كلّ ما يحتاج إليه الامّة إلي يوم القيامة حتّي أرش الخدش، و كان يسمّي بالجامعة.

منها: ما رواه بكر بن كرب الصيرفي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إنّ عندنا ما لا نحتاج معه إلي الناس،

و إنّ الناس ليحتاجون إلينا، و إنّ عندنا كتاباً إملاء رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و خطّ علي عليه السلام، صحيفة فيها كلّ حلال و حرام» «4».

و منها: ما رواه عبد اللّه بن ميمون عن جعفر عن أبيه قال: «في كتاب علي عليه السلام كلّ شي ء

______________________________

(1) اصول الكافي: ص 60، ح 7.

(2) المصدر السابق: ح 3.

(3) المصدر السابق: ح 1.

(4) المصدر السابق: ص 241.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 572

يحتاج إليه حتّي الخدش و الأرش و الهرش» «1».

و في مجمع البحرين: «و الأرض ما يأخذه المشتري من البائع إذا اطّلع علي عيب في المبيع، و الخدش تفرّق اتّصال في الجلد أو الظفر أو نحو ذلك و إن لم يخرج الدم خَدَشَه خدشاً إذا جرحه في ظاهر الجلد».

و في مقاييس اللغة: «الهاء و الراء و الشين (هرش) هي مهارشة الكلاب، تحريش بعضها علي بعض».

و منها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال سمعته يقول: «و ذكر ابن شبرمة في فتياه، فقال: أين هو من الجامعة أملي رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله و خطّه علي عليه السلام بيده، فيها جميع الحلال و الحرام حتّي ارش الخدش فيه» «2».

و منها: ما رواه جعفر بن بشير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «ما ترك علي عليه السلام شيئاً إلّا كتبه حتّي ارش الخدش» «3».

و منها: ما رواه علي بن سعيد قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: «أمّا قوله في الجفر إنّما هو جلد ثور مدبوغ كالجراب، فيه كتب و علم ما يحتاج إليه إلي يوم القيامة من حلال و حرام، إملاء رسول اللّٰه صلي الله

عليه و آله و خطّ علي عليه السلام» «4».

و في مجمع البحرين: «الجراب بالكسر وعاء من إهاب شاة يوعي فيه الحبّ و الدقيق و نحوها».

الطائفة الرابعة: روايات متظافرة أيضاً تحكم بالاحتياط و الوقوف عند الشبهات حتّي في موارد الشكّ في الحكم، و تأمر بوجوب الفحص و السؤال عند عدم العلم بحكم اللّٰه الواقعي، فإنّها تدلّ بالملازمة علي وجود حكم واقعي في كلّ واقعة كما لا يخفي.

منها: ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا

______________________________

(1) جامع أحاديث الشيعة، الباب 4، من أبواب المقدّمات، ح 23.

(2) المصدر السابق: ح 25.

(3) المصدر السابق: ح 26.

(4) المصدر السابق: ح 41.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 573

صيداً و هما محرّمان، الجزاء بينهما أو علي كلّ واحد منهما جزاءً؟ قال: لا، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد، قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال: إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّي تسألوا عنه فتعلموا» «1».

و منها: ما رواه جميل بن صالح عن الصادق عليه السلام (و هو معروف بحديث التثليث) عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله في كلام طويل: الامور ثلاثة: أمر تبيّن رشده فاتّبعه، و أمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه، و أمر اختلف فيه فردّه إلي اللّٰه عزّ و جلّ» «2».

و منها: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام ما حجّة اللّٰه علي العباد؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون» «3».

و غير ذلك من أشباهها «4»، و مفاد جميعها عدم خلوّ الواقعة عن الحكم

الشرعي و لذا لا بدّ من الاحتياط حتّي يسأل عن الإمام المعصوم عليه السلام.

و ممّا ينبغي جدّاً ذكره في هذا المقام ما مرّ كراراً من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في الذمّ علي الرأي و الاجتهاد، و هو قوله عليه السلام: «ترد علي أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضية بعينها علي غيره فيحكم فيها بخلاف قوله، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً و إلههم واحد، و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد، أ فأمرهم اللّٰه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّٰه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علي إتمامه، أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضي؟ أم أنزل اللّٰه سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلي الله عليه و آله عن تبليغه و أدائه، و اللّٰه سبحانه يقول: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ» و فيه «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»» «5».

هذا كلّه ما ورد من طرق الخاصّة، و قد ورد من طرق العامّة أيضاً ما يوافق مذهب التخطئة و أنّ للّٰه تعالي في كلّ واقعة حكم.

منها: ما رواه الترمذي عن أبو هريرة عن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد

______________________________

(1) وسائل الشيعة: الباب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 1.

(2) المصدر السابق: ح 23.

(3) المصدر السابق: ح 27.

(4) راجع ح 31 و 43 و 49 من نفس الباب، و ح 10 و 32 من الباب 11.

(5) نهج البلاغة: صبحي الصالح، خ 18.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 574

فأصاب فله أجران، و إذا حكم فأخطأ فله أجر واحد» «1».

و منها: ما ورد في الدرّ

المنثور قال: «سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: إنّي سأقول فيها برأي فإن كان صواباً فمن اللّٰه وحده، لا شريك له، و إن كان خطأً فمنّي و من الشيطان و اللّٰه عنه بري ء» «2».

إلي غير ذلك من نظائرهما.

فقد ظهر ببركة هذه الآيات و الروايات الكثيرة بطلان الأمر الأوّل، و هو أنّ ما لا نصّ فيه لا حكم فيه.

أمّا الأمر الثاني: و هو جواز إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه، ففيه: أنّه دعوي بلا دليل، بل اللازم في ما لا يوجد فيه نصّ خاصّ علي حكم إلهي هو الرجوع إلي الأحكام الظاهريّة المتّخذة من الاصول العمليّة (البراءة و الاحتياط و الاستصحاب و التخيير، كلّ في مورده).

نعم، أنّه يوجب لأهل السنّة الذين أعرضوا عن الثقل الأصغر، الدخول في هرج شديد لخلوّ كثير من الوقائع عن الحكم عندهم، و هذه نتيجة الإعراض عن العمل بحديث رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله حديث الثقلين.

و ينبغي هنا أوّلًا: الإشارة إلي ما دفعهم إلي القول بالتصويب، و ثانياً: إلي المفاسد التي تترتّب علي القول بالتصويب.

1- أسباب السقوط في هوّة التصويب

إنّ هناك اموراً دفعتهم إلي القول بالتصويب:

أحدها: قلّة الروايات التي يمكن الاستناد إليها في استنباط الأحكام الشرعيّة عندهم، و ذلك نشأ من عدم قبولهم الخلافة التي نصّ بها الرسول الأعظم صلي الله عليه و آله طيلة رسالته الشريفة

______________________________

(1) الترمذي: ج 2، ص 391 الرقم 1341.

(2) الدرّ المنثور: ج 2، ص 250.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 575

كراراً، حيث إنّه أوجب حصر الطريق إلي النبي صلي الله عليه و آله في الصحابة، و الإعراض عن عترته الطاهرة، حتّي بمقدار كونهم طرقاً معتبرة إلي النبي صلي الله عليه و آله، فإذا انضمّ هذا إلي ورود مجعولات كثيرة

في الروايات المنسوبة إلي النبي صلي الله عليه و آله الذي يطلب بالطبع الجرح و التعديل و طرح عدّة من الروايات، و هكذا إذا انضمّ إلي المنع عن ضبط الأحاديث من زمن الخليفة الثاني إلي مقدار مائة عام- استنتج منه تنزّل أخبار النبي صلي الله عليه و آله إلي أقلّ قليل، بحيث نقل أنّ الأحاديث الفقهيّة المعتبرة علي زعمهم، الموجودة عند أبي حنيفة عن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله كانت محصورة في خمسة و عشرين حديثاً، و لذلك اضطرّوا أن يلوذوا بأقوال الصحابة من قبيل أبي هريرة و أنس، و بالقياسات و الظنّيات و نحوهما و التصويب فيها.

ثانيها: اعتقادهم في مسألة الخلافة مع شدّة أهميتها بأنّ الرسول صلي الله عليه و آله فوّض أمرها إلي الامّة أي أهل الحلّ و العقد، فإنّه صلي الله عليه و آله إذا فوّض أمر الخلافة بتلك الأهميّة إلي الامّة ففي المسائل الفرعيّة بطريق أولي، و لازمه تصويب الامّة في آرائهم.

ثالثها: اعتقادهم بعدالة الصحابة و عدم خطئهم في الرأي، و لازمه صواب آراء جميعهم في صورة الاختلاف، و بالطبع تعدّد الحكم الواقعي بالإضافة إلي واقعة واحدة.

2- المفاسد المترتّبة علي القول بالتصويب

لا خفاء في ما يترتّب علي هذا القول من المفاسد العديدة في الفقه و المجتمع الإسلامي، و قد أشار إلي بعضها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته الشريفة التي مرّ ذكرها.

منها: الاعتراف بنقصان الدين العياذ باللّٰه، و هو نفس ما أشار إليه الإمام عليه السلام في خطبته.

و منها: انسداد باب الاجتهاد، فإنّ قولهم بانسداد باب الاجتهاد و حصر جواز الفتوي عن الأئمّة الأربعة لهم إنّما نشأ من كثرة الفتاوي الحاصلة من الاجتهاد بالرأي، و وقوع الخلاف الشديد بين الناس باختيار بعض

هذه الفتاوي، فقد ألجأهم ذلك إلي سدّ هذا الباب، لإزالة الخلاف، فصار مصداقاً للمثل المعروف: «كم أكلة منعت أكلات» (إذ كانت الأكلة الاولي سبباً للأمراض الموجبة للحرمان).

و منها: وقوع الفوضي و الهرج و المرج الفقهي و القضائي، لملازمته وجود آراء متضادّة و متعدّدة بعدد المجتهدين في مسألة واحدة، بل إنّه أكثر فساداً و أسوأ حالًا من المجالس التقنينيّة

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 576

في يومنا هذا، كما أشرنا إليه سابقاً في أوائل مبحث الاجتهاد و التقليد في الأمر الثاني (حيث إنّ أمر التشريع فيها إنّما هو بيد جماعة تسمّي بشوري التقنين لا فرد فرد من علمائهم و متخصّصيهم، و هم يضعون لقطر من أقطار الأرض، و الواضعون جماعة كثيرة من العقلاء، مندوبون عن الجماهير، بخلاف القول بالتصويب، لأنّهم قد يكون في بلد واحد، أو قرية من القري مجتهدون متعدّدون، و يكون لكلّ واحد منهم رأي و تقنين علي حسب ظنّه الشخصي).

و هذا هو الذي سبّب انسداد باب الاجتهاد في أواخر القرن الرابع من ناحية زعماء القوم بعد ما أحسّوا خطراً عظيماً، و هو اضمحلال الدين و هدم نظام الامّة، لاختلاف الآراء جدّاً، فحدّدوها في الأربعة المعروفة، و سدّوا باب الاجتهاد علي السائرين.

و قد أشار إلي هذا المعني في خلاصة التشريع الإسلامي فقال: إنّ سدّ باب الاجتهاد نشأ من أربعة عوامل:

الأوّل: توجّه العلماء إلي المسائل السياسيّة و انغمارهم فيها، و تخلّفهم عن المسائل العلميّة الفقهيّة، فاضطرّوا إلي القول بأنّ المجتهد و القادر علي الاستنباط هم العلماء الأوّلون فحسب.

الثاني: تحزّب المجتهدين و دخول كلّ واحد منهم في حزب و خطّ سياسي خاصّ فكان ينبغي علي كلّ حزب الحصول علي دليل من الروايات و الآيات علي حقّانية

حزبه.

الثالث: تحاسد العلماء و ظهور تصرفات سيّئة قبيحة في سلوكيات بعضهم حيث يتشبث بكلّ وسيلة دنيئة لتسقيط من انتهي إلي رأي جديد و نظر حديث في مسألة باجتهاده و العمل علي تشويه سمعته و تزييف آرائه و لهذا لم يجترئ أحد علي الاجتهاد و الاستنباط لئلا يقع في معرض تحاسد الآخرين.

الرابع: معالجة الفوضي الفقهيّة بالجمود و سدّ باب الاجتهاد «1» (انتهي كلامه).

أقول: الأهمّ من هذه الوجوه هو الوجه الأخير، فإنّ القول بالتصويب أوجب الوقوع في فوضي عظيمة، و بالتالي أوجب سدّ باب الاجتهاد، و تسبب في فقر فقهي شديد في المسائل المستحدثة، و لذلك رجع بعضهم في الأزمنة الأخيرة، و اعتقد بفتح باب الاجتهاد.

هذا- بخلاف الإماميّة التابعين لمكتب أهل البيت عليهم السلام فلا يترتّب علي قولهم بالانفتاح

______________________________

(1) راجع خلاصة التشريع الإسلامي: ص 341.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 577

أيّة مفسدة، بل إنّه موجب لازدهار علم الفقه و الاصول، و تطوّره و تقدّمه باستمرار، و ذلك أوّلًا: لاعتبارهم كون مرجع الفتوي للناس أعلم الفقهاء الأحياء، و ثانياً: أنّ اجتهادهم- كما مرّ تعريفه- مبنيّ علي أساس النصوص و ضوابط خاصّة مستفادة من النصوص أيضاً، لا علي القياس و الاستحسانات الظنّية و أشباهها ممّا لا تندرج تحت ضابطة معيّنة.

و بالجملة، أنّ نتيجة القول بالتصويب- بما أنّه يستبطن سدّ باب الاجتهاد- هي ركود علم الفقه و عدم تكامله فإنّ القائل به لا يري في الآراء الفقهيّة الصادرة خطأً حتّي يري نفسه ملزماً بالتحقيق و التتبّع و يتعب نفسه للحصول علي ما هو الواقع الحقّ بخلاف القول بالتخطئة، فإنّ القائل به يبذل جهده لتحصيل ذلك الحكم الواحد الواقعي، و لازمه التفكّر العميق و التدبّر الواسع و إعمال كمال الدقّة

للظفر بالحقّ و العثور علي الواقع.

هذا كلّه في القسم الأوّل من التصويب.

و أمّا القسم الثاني: و هو التصويب المعتزلي

(و هو أنّ للّٰه في كلّ واقعة حكماً و لكن لمن وصل إليه الخطاب، و أمّا من لم يصل إليه الخطاب فلا حكم في حقّه، بل تصل النوبة حينئذٍ إلي تقنين الفقيه) فهو أيضاً باطل بكلتا مقدّمتيه، لأنّ القول بأنّ الأحكام مخصوصة للعالمين فقط مخالف لظاهر جميع أدلّتها، فإنّ مثل قوله تعالي: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» و قوله تعالي: «إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً» عامّ للجاهل و العالم، و ليس العلم مأخوذاً في موضوعه، بل العلم طريق إليه، و لو سلّمنا اختصاص الأحكام بالعالمين فلا دليل أيضاً علي إعطاء حقّ التقنين بيد الفقيه كما مرّ في نظيره (التصويب الأشعري).

و أمّا القسم الثالث: و هو التصويب المبني علي القول بسببيّة الأمارات.

ففيه أيضاً: أنّه لا دليل علي سببيّة الأمارات فإنّ ظاهر أدلّتها هو الطريقيّة كما مرّ بيانه في محلّه، فإنّا قد قلنا هناك أنّ قوله تعالي: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» مثلًا بمعني «فاسألوا حتّي

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 578

تعلموا»، و ممّا يؤكّد هذا المعني ما مرّ كراراً من أنّ الأمارات الشرعيّة جلّها- لو لا كلّها- امضاءات لبناءات العقلاء، و لا إشكال في أنّها طرق إلي الواقع عندهم فقط.

و أمّا القسم الرابع: و هو أنّ يكون المراد من التصويب جعل أحكام ظاهريّة مماثلة لمؤدّيات الطرق و الأمارات فقد قلنا سابقاً أنّه هو الصحيح المختار، بل لا يسمّي هذا تصويباً.

و الدليل عليه: أنّ أدلّة حجّية الأمارات ظاهرة في الجعل و الإنشاء، و ليس مفادها مجرّد المنجّزية أو المعذّرية، و الشاهد عليه هو السيرة العمليّة للفقهاء و ارتكازهم الفقهي و

المتشرّعي، حيث إنّهم يعبّرون في رسائلهم العمليّة عن مؤدّيات الأمارات بالواجب و الحرام، و يحكمون بأنّ هذا واجب و ذاك حرام، لا أنّك معذور إن كان هذا حراماً و لست معذوراً إن كان هذا واجباً.

و لكن- كما عرفت- فإنّ تسمية هذا بالتصويب خلاف الاصطلاح، لأنّ مصطلح الفقهاء فيه إنّما هو في الأحكام الواقعيّة.

ثمّ إنّه قد مرّ في أوائل البحث عن أقسام التصويب في ذيل هذا القسم، أنّه قد يكون في سلوك هذه الطرق مصالح أهمّ من المصالح الواقعيّة التي تفوت المكلّف، و هي التي يعبّر عنها بالمصالح السلوكيّة، و بهذا يندفع ما أورد علي حجّية الأمارات من أنّ لازمه تفويت المصلحة أو القاء العبد في المفسدة كما لا يخفي.

نعم، قد استشكل بعض الأعلام في المحاضرات في هذا القسم (و بتعبير آخر في هذا المعني للسببية، و بتعبير ثالث في المصلحة السلوكيّة) من جهتين:

الاولي: «أنّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة لتصحيح اعتبار الأمارات و حجّيتها (و دفع الإشكال المزبور) و السبب في ذلك أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتّب عليه مصلحة و إن كان لغواً فلا يمكن صدوره من الشارع الحكيم، إلّا أنّه يكفي في ذلك ترتّب المصلحة التسهيلية عليه، حيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بكلّ حكم شرعي لكلّ واحد من المكلّفين غير ممكن في زمان الحضور فضلًا عن زماننا هذا، و لو أمكن هذا فبطبيعة الحال كان حرجيّاً لعامّة المكلّفين في عصر الحضور فما ظنّك في هذا العصر، و من الواضح أنّ هذا منافٍ لكون الشريعة

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 579

الإسلاميّة شريعة سهلة و سمحة.

الثانية: أنّ مردّ هذه السببيّة إلي السببيّة المعتزلية في انقلاب الواقع و تبدّله لأنّنا إذا افترضنا قيام مصلحة

في سلوك الأمارة التي توجب تدارك مصلحة الواقع فالإيجاب الواقعي عندئذٍ تعييناً غير معقول» «1».

أقول: أمّا الإشكال الأوّل فهو عجيب فإنّ مصلحة التسهيل هي نفس المصلحة السلوكيّة و مصداق بيّن منها، فلولا هذه المسألة لما أمر الشارع بسلوك هذه الطرق.

و أمّا الثاني فالجواب عنه ظاهر بعد ما عرفت من أنّ مصلحة التسهيل هي من المصالح السلوكيّة، فما يجاب عن هذه المصلحة هو الجواب في أشباهها. و بعبارة أوضح: ليست المصلحة السلوكيّة في عرض مصلحة الواقع، فإنّ المصالح الواقعيّة إنّما هي مصالح في أفعال المكلّفين، و أمّا المصلحة السلوكيّة فإنّما هي مصلحة في سلوك هذا الطريق بقصد الوصول إلي الحكم الواقعي، فيكون أحدهما في طول الآخر، و لا معني للتخيير حينئذٍ.

الأمر السابع: تبدّل رأي المجتهد

و فيه يبحث أيضاً عن مسألة العدول عن مجتهد إلي آخر، من حي إلي حي أو من ميّت إلي حي لاشتراك المسألتين في الأدلّة، و هو بحث مبتلي به كثيراً، و يطرح تارةً بالنسبة إلي المجتهد نفسه في العمل برأيه، و اخري بالنسبة إلي مقلّديه.

كما أنّ الكلام فيه تارةً يقع في العبادات و اخري في المعاملات بالمعني الأخصّ، كما إذا اشتري داراً بالبيع الفضولي أو المعاطاة، ثمّ تبدّل رأيه إلي بطلانه، و ثالثة في المعاملات بالمعني الأعمّ، كما إذا تزوّج بالعقد الفارسي، ثمّ تبدّل رأيه و ذهب إلي اشتراط العربية، أو كان قائلًا في باب الرضاع باعتبار أكثر من عشر رضعات في حصول المحرميّة فتزوّج بمن ارتضعت من امّه عشر رضعات، ثمّ تبدّل رأيه و ذهب إلي كفايتها في حصول المحرميّة، أو كان قائلًا في باب النجاسات بعدم نجاسة عرق الجنب عن الحرام، و في باب الطهارة بعدم اعتبار عصر الثوب في

______________________________

(1) المحاضرات: ج 2،

ص 271- 273.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 580

التطهير، ثمّ تبدّل رأيه إلي نجاسة عرق الجنب عن الحرام أو اعتبار العصر.

و من جانب آخر تارةً يكون الموضوع موجوداً، كما إذا كانت الذبيحة موجودة أو كان متلبّساً بثوب لم يعصره حين تطهيره، و اخري يكون معدوماً.

ثمّ ليعلم أنّ هذا كلّه إنّما هو في ما إذا كانت الفتوي السابقة موافقة للاحتياط، و أمّا إذا كانت مخالفة له كما إذا كان قائلًا باعتبار إتيان التسبيح ثلاث مرّات و تبدّل رأيه إلي كفاية مرّة واحدة فلا إشكال في أنّه خارج عن محلّ النزاع.

و كيف كان، لا بدّ هنا من تقديم امور:

الأوّل: في الأقوال في المسألة، و هي كثيرة:

قول بالإجزاء مطلقاً.

و قول بعدم الإجزاء مطلقاً.

و قول بالتفصيل، و هو بنفسه متعدّد:

تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية بين ما إذا كان مدرك الاجتهاد الأوّل هو القطع بالحكم، أو كان هو الطريق المعتبر شرعاً، و كان المبني اعتبار الأمارات من باب الطريقيّة، فيعامل حينئذٍ مع الأعمال السابقة معاملة البطلان، و بين ما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو الطريق المعتبر شرعاً كان المبني اعتبار الأمارات من باب السببيّة و الموضوعيّة، أو كان ملاك الاجتهاد السابق هو الاستصحاب أو البراءة الشرعيّة فيعامل معها معاملة الصحّة.

و تفصيل صاحب الفصول رحمه الله بين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في نفس الحكم الشرعي فيتغيّر الحكم الشرعي بتغيّر الاجتهاد الأوّل و لا يبقي إلي الآخر، فلو بني علي حلّية حيوان فذكّاه، ثمّ رجع و بني علي تحريم المذكّي، و بين ما إذا كان الاجتهاد الأوّل في متعلّق الحكم الشرعي، و قد وقع المتعلّق في الخارج علي طبق ذلك الاجتهاد الأوّل، ثمّ تغيّر الاجتهاد، فلا يتغيّر

المتعلّق عمّا كان عليه من الصحّة، بل يبقي علي آثاره حتّي بعد الرجوع، كما إذا بني علي عدم جزئيّة شي ء للعبادة أو عدم شرطيّته فأتي بها علي الوجه الذي بني عليه ثمّ رجع، فيبني علي صحّة ما أتي به.

و تفصيل المحقّق اليزدي رحمه الله في العروة الوثقي (المسألة 53) بين ما إذا كان موضوع اجتهاده باقياً بنفسه فلا يكون مجزياً، كما إذا أفتي بجواز الذبح بغير الحديد مثلًا فذبح حيواناً كذلك

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 581

فمات المجتهد (أو تبدّل رأيه) و قلّد من يقول بحرمته و كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه و لا أكله، و بين غيره من موارد العبادات و المعاملات ممّا قد مضي فيكون مجزياً، فلو قلّد من يكتفي بالمرّة مثلًا في التسبيحات الأربع، أو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثمّ مات، و قلّد من يقول بعدم كفاية المرّة و بالبطلان، يجوز له البناء علي صحّة العبادة و العقد، و لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة.

الثاني: أنّ هذه المسألة جزئي من جزئيات مسألة الإجزاء و مصداق من مصاديقها، لأنّ من أقسامه هو الإجزاء في الأوامر الظاهريّة، و المقام من هذا القبيل، لأنّ حجّية فتوي المجتهد للمقلّد حكم ظاهري له.

نعم أنّها أعمّ منها من جهة اخري، فإنّ مسألة الإجزاء مختصّة بباب الأوامر و الأحكام التكليفيّة فحسب، و لا تعمّ الأحكام الوضعيّة، بينما البحث هنا أي مسألة التبدّل و العدول يعمّ الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة معاً، فكلّ من المسألتين أعمّ من الاخري من جهة، و أخصّ منها من جهة اخري.

الثالث: في مقتضي الأصل في المسألة، و لا يخفي لزوم تعيينه حتّي يطالب من يخالفه بالدليل فنقول: لا إشكال

في أنّ مقتضي الأصل و القاعدة الأوّليّة في المقام هو الفساد فإنّ الأصل مثلًا هو عدم وقوع التذكية شرعاً أو عدم الإتيان بالصلاة الصحيحة (مع قطع النظر عن القواعد الخاصّة التي يمكن جريانها كقاعدة الفراغ و نحوها) فهو يوافق القول بعدم الإجزاء فلا بدّ للقائلين بعدم الفساد من إقامة الدليل عليه.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّه إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع ثمّ انكشف خلافه بالقطع أيضاً فلا وجه حينئذٍ للقول بالإجزاء، لأنّ المفروض أنّه لم يكن في الواقع أمر من جانب المولي، بل إنّه امتثل أمراً خيالياً منقوشاً في الذهن فقط، و ذلك لأنّ القطع ليس من الأمارات الشرعيّة حتّي يقال: إنّه أمارة كسائر الأمارات يتولّد منها حكم ظاهري شرعي، بل هو من الأمارات العقليّة التي تكون مجرّد طرق إلي الواقع فحسب، و منه يعلم الحال فيما إذا زال القطع السابق و قامت أمارة شرعيّة علي خلافه.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 582

لكن موارد تبدّل رأي المجتهد ليست من هذا القبيل غالباً لأنّ ما يتبدّل عند المجتهد في غالب الموارد إنّما هو الأمارات الظنّية المعتبرة، كما أنّ رجوع المقلّد إلي مجتهد آخر أيضاً ليس من هذا القبيل أصلًا، لأنّ الحجّة عنده إنّما هو قول المجتهد و هو أمارة ظنّية عقلائية أمضاها الشارع المقدّس.

و المهمّ في المقام هو ما إذا كانت فتوي المجتهد علي أساس أمارة شرعية و كان المبني في حجّية الأمارات، الطريقيّة (كما هو الحقّ)، و حينئذٍ يستدلّ للإجزاء بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: (و هو العمدة) إنّ إطلاقات أدلّة حجّية الأمارات لا تشمل الأعمال السابقة التي أتي بها المكلّف وفقاً لأمارات كانت حجّة عليه حين العمل، و بعبارة اخري: إنّ أدلّة حجّية الأمارات

و إن كانت مطلقة من حيث الزمان، و لكنّها منصرفة إلي زمان الحال و الاستقبال، و لا تشمل ما عمل سابقاً علي وفق أمارة اخري، أي أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو الحال و المستقبل، كما أنّه كذلك في الأمارات العرفيّة، فمن أعطي دراهم بيد وكيله، و أمره بأن يتّجر بها أحسن التجارة و أنفعها، و الوكيل لا يعلم ما هو أنفعها و أحسنها فيعتمد فيها علي قول الخبرة، و يسأل زيد الخبرة عنها مثلًا، فيعمل علي وفق رأيه، ثمّ بعد مضيّ زمان يسأل عن عمرو الخبرة نفس ذلك، فيجيبه بما يخالف رأي زيد، فحينئذٍ هل يكون معني حجّية كلام عمرو إبطال جميع العقود السابقة لأنّه لم يكن وكيلًا في ابتياع غير الأنفع، فالعقود الواقعة عليها فضوليّة، أو أنّ القدر المتيقّن منها إنّما هو بالنسبة إلي الحال و الاستقبال؟ لا إشكال في أنّ وجداننا العرفي يحكم بالثاني.

و علي أي حال: لا اطلاق في الاجتهاد الثاني حتّي يعمّ الواقعة السابقة، و لا أقلّ من الشكّ في ذلك، و لعلّ هذا هو مراد من قال (و هو صاحب الفصول و غيره): «الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين»، و لعلّه هو العلّة للسيرة المدّعاة في كلمات بعضهم علي عدم إعادة الأعمال السابقة (و كون الإعادة أمراً مستغرباً في أذهان أهل الشرع بأن يعمل بفتوي مجتهد عشرات سنة، ثمّ بعد تبدّله أو تقليد مجتهد آخر يعيد جميع أعماله التي عملها في هذه السنوات، و كذلك فيما بعده من تبدّلات الرأي، و لعلّه أيضاً المصدر الوحيد لما ادّعي من الإجماع في المسألة، و لا أقلّ في العبادات.

و إن شئت قلت: الإجماع المدّعي و السيرة المستمرّة التي وردت في كلمات بعضهم- و

لا

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 583

يبعد قبولها في الجملة- أيضاً مؤيّدتان لما ذكرنا من الدليل.

ثمّ إنّ هاهنا بيانين آخرين لا يمكن الالتزام بهما إلّا إذا رجعا إلي البيان المزبور:

أحدهما: أنّ الاجتهاد اللاحق كالاجتهاد السابق، و لا دليل علي ترجيحه عليه حتّي يبطله. و هذا بحسب ظاهره باطل قطعاً، لأنّ المفروض أنّ المجتهد يري الاجتهاد السابق في الآن باطلًا و لو ظنّاً، و يكون هذا الزمان زمان حكومة الاجتهاد الثاني، فكأنّه ظفر لمصدر الاجتهاد السابق معارضاً لم يظفر به سابقاً.

إلّا أن يرجع إلي أنّ دليل حجّية الاجتهاد اللاحق لا يعمّ الأعمال السابقة و هو نفس ما ذكرناه.

ثانيهما: ما ذكره في «التنقيح» من دون أن يقبله، و حاصله: أنّ الاجتهاد الأوّل كان حجّة في ظرفه، و الاجتهاد الثاني حجّة من زمن تحقّقه، و لا يعمّ السابق، فكلّ حجّة في ظرفه الخاصّ به.

و بعبارة اخري: المفروض في المقام هو ما إذا كان انكشاف الخلاف بقيام حجّة معتبرة علي الخلاف، فلا علم وجداني بكون الاجتهاد السابق علي خلاف الواقع، و حينئذٍ كما يحتمل أن يكون الاجتهاد الثاني مطابقاً للواقع، يحتمل أيضاً أن يكون الاجتهاد الأوّل كذلك، فهما متساويان من هذه الجهة لأنّ الاجتهاد اللاحق لا يكشف عن عدم حجّية الاجتهاد السابق في ظرفه، لأنّ انكشاف الخلاف في الحجّية أمر غير معقول، بمعني أنّ السابق يسقط عن الحجّية في ظرف الاجتهاد الثاني مع بقائه علي حجّيته في ظرفه «1».

و هذا أيضاً لا يمكن المساعدة عليه بظاهره، لأنّ الاجتهاد الثاني و إن كان زمان حجّيته حين وصوله، و لكنّه يمكن أن يكون عاماً من حيث المحتوي و المؤدّي فيشمل الأعمال السابقة أيضاً.

فمثلًا إذا ظفر المجتهد برواية تدلّ علي وجوب

صلاة الجمعة فإنّها و إن صارت حجّة من زمن وصولها و لكن مضمونها و محتواها يدلّ علي وجوب صلاة الجمعة من زمن الرسول صلي الله عليه و آله إلي يوم القيامة، لأنّ مقتضاها ثبوت مدلولها في الشريعة المقدّسة من الابتداء، لعدم اختصاصه

______________________________

(1) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقي: ج 1 ص 51- 54.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 584

بعصر دون عصر، و حينئذٍ يكون العمل المأتي به علي طبق الحجّة السابقة باطل بمقتضي الحجّة الثانية.

إلّا أنّ يقال: إنّ المقصود من هذا البيان أنّ المضمون المذكور منصرف من الأعمال السابقة التي عمل فيها بدليل معتبر في وقته، فيرجع إلي ما ذكرنا من البيان.

الوجه الثاني: أنّ عدم الإجزاء يؤدّي إلي العسر و الحرج المنفيين عن الشريعة السمحة، لعدم وقوف المجتهد غالباً علي رأي واحد، فيؤدّي إلي الاختلال فيما يبني فيه عليها من الأعمال.

و فيه: أنّه أخصّ من المدّعي من وجه، و أعمّ منه من وجه آخر، أمّا كونه أخصّ منه فلأنّ المعروف أنّ المعيار إنّما هو الحرج الشخصي لا النوعي فلا يعمّ الدليل جميع المكلّفين، و أمّا كونه أعمّ منه فلشموله موارد القطع و اليقين مع أنّه لا كلام في عدم الإجزاء في موارد القطع.

الوجه الثالث: الإجماع علي الإجزاء مطلقاً أو في خصوص العبادات علي الأقلّ.

و فيه: أوّلًا: أنّه منقول لا دليل علي حجّيته، و ثانياً: يكون محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنه.

الوجه الرابع: السيرة المتشرّعة المستمرّة علي عدم الإعادة و القضاء مع أنّ تبدّل الرأي أمر شائع بين المجتهدين.

و فيه: أنّ إرجاع هذه السيرة إلي زمن المعصوم عليه السلام أمر مشكل جدّاً، لأنّه و إن كان الاجتهاد موجوداً في ذلك الزمان أيضاً و لكن لم

يكن علي نحو تبدّل الآراء و العدول عنها بحيث كان في مرأي و مسمع من الأئمّة المعصومين عليهم السلام، و لعلّ منشأ هذه السيرة و كذا الإجماع هو الدليل الأوّل الذي اخترناه، كما أشرناه إليه آنفاً.

الوجه الخامس: أنّ عدم الإجزاء يوجب ارتفاع الوثوق في العمل بآراء المجتهدين، من حيث إنّ الرجوع في حقّهم محتمل، و هو منافٍ للحكمة الداعية إلي تشريع حكم الاجتهاد.

و فيه: أنّه مجرّد استحسان ظنّي لا يركن إليه ما لم يلزم منه عسر حرج اختلاف النظام.

الوجه السادس: ما استدلّ به بعضهم من الاستصحاب علي بقاء آثار السابقة للأعمال التي أتي بها.

و فيه: أوّلًا: ما ذكرناه غير مرّة من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، و ثانياً: - و هو العمدة-: أنّ المقوّم للأحكام السابقة كان رأي المجتهد، و المفروض انتفاؤه فعلًا

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 585

و انقلابه إلي غيره، فإذا عدم الرأي كيف يمكن استصحاب آثاره، و هو أشنع من الاستصحاب عند تبدّل الموضوع و تغيّره.

الوجه السابع: ما استدلّ به بعض الأعلام علي الإجزاء و عدم انتقاض الآثار السابقة بعد تقسيمه الأحكام إلي التكليفيّة و الوضعيّة، و حاصله:

أمّا أحكام الوضعيّة: بالمعني الأعمّ فإنّها تتعلّق غالباً بالموضوعات الخارجيّة، و لا معني لقيام المصلحة بها، بل المصلحة قائمة بالأمر الاعتباري، ففي عقد المعاطاة مثلًا المصلحة لا تقوم بالمال بل بالملكيّة الحاصلة من المعاطاة القائمة بالمال، فإذا أدّت الحجّة إلي أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكيّة، فإذا قامت الحجّة الثانية علي أنّ المعاطاة لا تفيد الملكية لم تكشف إلّا عن أنّ المسألة من لدن قيامها إنّما هي في جعل الإباحة في المعاطاة لا في جعل الملكية، فقيام الحجّة الثانية من

قبيل تبدّل الموضوع.

و أمّا الأحكام التكليفيّة: فهي و إن كانت تابعة للمصالح و المفاسد في متعلّقاتها و يتصوّر فيها كشف الخلاف، إلّا أنّ الحجّة الثانية إنّما يتّصف بالحجّية بعد انقطاع الحجّة السابقة، فالحجّة الثانية لم تكن حجّة في ظرف الحجّية السابقة، و إنّما حجّيتها تحدث بعد سلب الحجّية عن السابقة، و إذا كان الأمر كذلك استحال أن تكون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة عليها، (انتهي ملخّصاً) «1».

و فيه: أوّلًا: أنّه قدس سره هل يتكلّم علي مبني القائلين بالسببيّة في حجّية الأمارات أو الطريقيّة؟ من الواضح أنّه لا يقول بالأوّل، و أمّا علي الثاني فالحجج الشرعيّة لا تكشف عن المصالح الواقعيّة لأنّها تتضمّن أحكاماً ظاهريّة فحسب، و المصلحة السلوكيّة لا توجب الاجزاء، فما ذكره من أنّ المصلحة حاصلة في عقد المعاطاة بعد قيام الحجّة أمر غريب علي مبناه، و قوله: «إذا أدّت الحجّة إلي أنّ المعاطاة مملّكة فقد وجدت المصلحة في جعل الملكية في المعاطاة» نفس القول بالسببية من دون تفاوت.

________________________________________

شيرازي، ناصر مكارم، الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، در يك جلد، انتشارات مدرسه امام علي بن ابي طالب عليه السلام، قم - ايران، دوم، 1428 ه ق الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)؛ ج 3، ص: 585

و أمّا دعوي الاستحالة في كون الحجّية المتأخّرة موجبة لانقلاب الأعمال المتقدّمة في الأحكام التكليفيّة فهو أغرب منه، فإنّ الأعمال المتقدّمة لم تثبت صحّتها واقعاً و إنّما ثبتت

______________________________

(1) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقي: ج 1، ص 54- 56.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 586

صحّتها ظاهراً (كما هو المفروض) و الانقلاب إنّما هو بالنسبة إلي آثارها الموجودة الآن من القضاء و الإعادة، و هذا ليس من المستحيل أبداً.

اللهمّ إلّا أن

يعود كلامه إلي ما ذكرنا آنفاً من أنّ الحجّية الثانية لا تدلّ علي ترتيب الآثار عليها إلّا بالنسبة إلي أعماله في الحال و في المستقبل، لانصرافها عمّا أتي به وفقاً للحجّة السابقة، و الانصراف العرفي أمر، و دعوي الاستحالة العقليّة أمر آخر.

و ثانياً: ما أفاده من أنّه لا معني لقيام المصلحة أو المفسدة بالجسم و الموضوع الخارجي.

فيرد عليه: أنّ الطهارة و النجاسة من الأحكام الوضعيّة تتّبعان المصالح و المفاسد الموجودة في الموضوعات الخارجيّة، و هكذا أشباههما.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّ ما ذكرناه هنا إنّما هو مقتضي القواعد الأوّلية في الأعمال السابقة المطابقة للاجتهاد الأوّل مع قطع النظر عن مقتضي القواعد الثانوية الخاصّة، فإنّ هاهنا قواعد خاصّة تقتضي صحّة الأعمال السابقة:

منها: ما يختصّ بباب الصّلاة، و هي قاعدة «لا تعاد الصّلاة إلّا من خمس» لشمول إطلاقها للجاهل القاصر، و ما نحن فيه من مصاديقه لأنّ المجتهد إذا أخطأ في اجتهاده كان من هذا القبيل، فإذا أدّي الاجتهاد الأوّل إلي عدم جزئيّة شي ء للصّلاة مثلًا و المكلّف أتي بالصلاة علي طبقه، ثمّ تبدّل الرأي و انكشف الخلاف و ظهرت جزئية ذلك الشي ء صحّت الصّلاة، و لا إشكال في عدم وجوب الإعادة و القضاء.

و منها: ما يختصّ بباب الصيام فإنّ الأدلّة التي تدلّ علي أنّ الإفطار يوجب البطلان مختصّة بالعالم العامد فقط و لا تشمل ما نحن فيه، و لازمه صحّة الصيام الذي أتي به المكلّف وفقاً للاجتهاد الأوّل.

منها: الإجماع علي الإجزاء في بعضهم العبادات، و قد ادّعاه بعضهم و قال في مستمسكه «نسب إلي بعض دعوي صريح الإجماع بل الضرورة عليه» «1».

______________________________

(1) مستمسك العروة لسيّد الحكيم قدس سره: ج 1، ص 81.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3،

ص: 587

و لكن فيه: أوّلًا: أنّه من قبيل الإجماع المنقول الذي لا دليل علي حجّيته، فإنّ المحصّل منه في أمثال المقام لم يتعرّض أكثر الأصحاب للمسألة في كلماتهم أمر مشكل جدّاً.

و ثانياً: أنّه محتمل المدرك لو لم يكن متيقّنة فإنّا نحتمل (علي الأقل) استنادهم في ذلك إلي بعض الوجوه المستدلّ بها في المقام، و قد مرّ عليك ذكرها آنفاً.

و ثالثاً: أنّ المحكيّ عن العلّامة و العميدي 0 دعوي الإجماع علي خلافه (علي ما في مستمسك الحكيم قدس سره).

هذا كلّه فيما إذا كانت فتوي المجتهد علي أساس أمارة من الأمارات الشرعيّة.

و منه يظهر الكلام في الاصول العمليّة العقليّة أو الشرعيّة، فإنّ الحكم الحاصل منها حكم ظاهري، و قد عمل به المكلّف، ثمّ تبيّن بحسب الاجتهاد الثاني خلافه، فيأتي جميع ما ذكرنا في الأمارات و الأدلّة الاجتهاديّة.

و ملخّص الكلام في المقام: أنّ تبدّل الرأي علي ثلاثة صور:

تارةً يكون العمل قد مضي ثمّ تبدّل الرأي، ففي هذه الصورة لا إشكال في الإجزاء إلّا فيما إذا كان مدرك الاجتهاد السابق هو القطع.

و اخري: السبب قد مضي و المسبّب باقٍ علي حاله كما في مثال الذبيحة فإنّ عمل التذكية فيه قد مضي و أمّا الحيوان المذكّي فهو موجود في الحال، و مثل عقد النكاح بالفارسية فالعقد قد مضي و أمّا مسبّبه و منشؤه و هو الزوجية باقٍ علي حاله، و مثل ما إذا اشتري داراً بعقد المعاطاة فمسبّبه و هو ملكية الدار باقية علي حالها، ففي هذه الصورة أيضاً إذا تبدّل رأي المجتهد، الصحيح هو الإجزاء من دون فرق بين مثال الذبيحة و إنشاء العقد باللغة الفارسيّة لأنّ كليهما من باب واحد، و المسبّب (أو الموضوع علي تعبير المحقّق اليزدي

رحمه الله في العروة الوثقي) باقٍ علي حاله في كليهما، و لا وجه للفرق بينهما كما ذهب إليه السيّد اليزدي رحمه الله، و لذلك علّق علي كلامه و استشكل عليه أكثر المعلّقين.

و ثالثة: يكون الموضوع باقياً علي حاله، كما إذا اجتهد سابقاً و رأي كفاية سبعة و عشرين شبراً في تحقّق الكرّية، و اجتهد في اللاحق علي عدم كفايتها، و كان الماء المحكوم بالكرّية سابقاً باقياً علي حاله، و رأي سابقاً عدم نجاسة ملاقي الشبهة المحصورة أو عدم نجاسة عرق

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 588

الجنب عن الحرام أو دم البيض، و الآن يري نجاستها و هي باقية علي حالها، ففي هذه الصورة لا إشكال في عدم الإجزاء، لأنّ الكلام فيه ليس في الأعمال الماضية، بل بالنسبة إلي الحال و المستقبل، بأن يعامل مع هذا الماء معاملة الكرّ في الحال و الآتي فلا ريب في عدم الإجزاء.

فالحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين و الصورة الأخيرة، و القول بالإجزاء في الأوليين دون الأخيرة، و منه يظهر حال سائر التفاصيل المذكورة في المقام و الجواب عنها.

ثمّ إنّ هنا تفصيلًا آخر اختاره سيّدنا الاستاذ الحكيم رحمه الله في مستمسكه، و حاصله: الفرق بين أعمال المجتهد نفسه و أعمال مقلّديه، و عدم الإجزاء في الاولي و الاجزاء في الثانية، أمّا حكم المجتهد نفسه بالإضافة إلي الأعمال السابقة علي العدول فالظاهر وجود التدارك عليه، لأنّ الدليل الأوّل في نظره علي الفتوي اللاحقة لا فرق فيه بين الوقائع السابقة و اللاحقة، و أمّا بالنسبة إلي المقلّد فيمكن الاستدلال علي صحّة الأعمال السابقة بأنّ ما دلّ علي جواز العدول أو وجوبه إنّما دلّ عليه بالإضافة إلي الوقائع اللاحقة سواء

كان هو الإجماع أو غيره، مضافاً إلي استصحاب بقاء الحجّية للفتوي السابقة بالإضافة إلي الوقائع السابقة، نعم لو كان العدول لأجل أعلمية المعدول إليه فوجوب العدول إليه يقتضي تدارك الأعمال السابقة لإطلاق دليل حجّية فتوي الأعلم، (انتهي كلامه ملخّصاً) «1».

و فيه: أنّ الإنصاف عدم الفرق بين المجتهد و المقلّد في هذا الباب، و لا بين أن يكون تبدّل الفتوي للعدول إلي الأعلم أو غير ذلك من أسباب العدول و تغيير الفتوي، فإنّ الفتوي الأخيرة التي استنبطها المجتهد عن الأدلّة غير مقيّدة بزمان و لا مكان، و لا حال دون حال، بل محتواها أنّ الحكم الشرعي من زمن النبي صلي الله عليه و آله إلي آخر الدنيا هو هذا كما كانت الاولي قبل كشف خلافها كذلك، فإذا ثبتت حجّية فتوي المجتهد، في زمان وجب ترتيب الآثار علي كلامه بالنسبة إلي جميع الأزمنة.

اللهمّ إلّا أن يقال: بانصراف حجّيتها إلي خصوص الوقائع اللاحقة، و لكن يجري مثل هذه الدعوي بالنسبة إلي المجتهد نفسه لأنّه و إن كان يعترف بالخطإ في الجملة و لكن المفروض

______________________________

(1) المستمسك: ج 1، ص 81- 83.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 589

أنّه ليس معناه حصول القطع ببطلان الفتوي السابقة لأنّه خارج عن محلّ الكلام، بل يحتمل صحّتها أيضاً في متن الواقع، و إن كانت وظيفته فعلًا العمل بالثانية.

و حينئذٍ يمكن دعوي انصراف أدلّة حجّية الفتوي اللاحقة إلي الوقائع اللاحقة حتّي بالنسبة إلي المجتهد نفسه، هذا إذا كان الدليل لفظياً، و أمّا إذا كان دليل الحجّية لبّياً فالقدر المتيقّن منه ليس إلّا ما ذكرناه، و هذا الكلام يجري بالنسبة إلي الأعلم أيضاً.

إلي هنا تمّ الكلام عن المقام الأوّل من مباحث الاجتهاد و التقليد (و

هو البحث عن أحكام الاجتهاد).

المقام الثاني: في مباحث التقليد

اشارة

و هو في اللغة جعل القلادة علي العنق، قلّده تقليداً جعل القلادة علي عنقه، و منها تقليد الولاة الأعمال، و تقليد البدنة أن يعلّق في عنقها شي ء ليعلم أنّه هدي، و تقليد السيف تعليقه في العنق أو شدّه علي وسطه، و أمّا الاقليد فهو معرّب «كليد»، و في مجمع البحرين أنّه لغة يمانية بمعني المفتاح، فلا ربط بينه و بين مادّة القلادة.

و أمّا التقليد في المقام، أي التقليد عن المجتهد فالمعروف أنّه قبول قول الغير من غير دليل، لأنّ المقلِّد يجعل عمله كالقلادة علي عنق المجتهد، و قيل أنّ المقلِّد يجعل طوق التبعيّة علي عنقه.

و أمّا في الاصطلاح فقد ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله له في رسالته الشريفة أربعة معانٍ:

1- العمل بقول الغير.

2- قبول قول الغير.

3- الأخذ بقول الغير.

4- متابعة قول الغير.

و يمكن أن يقال: إنّها جميعاً ترجع إلي معني واحد و لكن يستخرج منها عند الدقّة ثلاثة مفاهيم مختلفة: أحدها: العمل بقول الغير، ثانيها: الأخذ بقول الغير بقصد العمل من دون العمل به، ثالثها: الالتزام القلبي بالعمل به و إن لم يأخذه و لم يعمل به، ثمّ يقع البحث في أنّه أي شي ء من

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 590

هذه الامور الثلاثة يعبّر عن حقيقة التقليد، فهل هي الالتزام القلبي بفتوي المجتهد سواء أخذ بها أم لم يأخذ، و سواء عمل بها أم لم يعمل، أو أنّه الالتزام مع الأخذ بقصد العمل سواء عمل أم لم يعمل، أو أنّه الالتزام مع الأخذ و العمل؟

و للمحقّق الخراساني رحمه الله تعريف خامس، و هو: الأخذ بقول الغير بغير دليل، فأضاف إليه قيد «بغير دليل»، و لا ريب في أنّ

مراده من الدليل إنّما هو الدليل التفصيلي، و إلّا يكون للمقلّد دليل في تقليده إجمالًا بلا إشكال.

و في العروة الوثقي للمحقّق اليزدي؛ تعريف سادس و هو: الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن، فإنّه قال في المسألة 8: «التقليد هو الالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن و إن لم يعمل بعد، بل و لو لم يأخذ فتواه فإذا أخذ رسالته و التزم بما فيها كفي في تحقّق التقليد».

و قد وافقه جماعة من المحشّين، و خالفه جماعة اخري منهم و قالوا: «التقليد هو الأخذ بفتوي المجتهد للعمل».

و التعريف السابع ما هو المختار، و هو: الاستناد إلي رأي المجتهد في مقام العمل. فإنّ الإنصاف أنّ التقليد إنّما هو العمل استناداً إلي قول المجتهد أو أنّه الاستناد في مقام العمل، و الدليل عليه:

أوّلًا: أنّه هو المناسب للمعني اللغوي حيث إنّه عبارة عن جعل القلادة في العنق، و لا ريب في أنّ قلادة التقليد تعلّق علي عنق المجتهد بعد أن عمل المقلّد بفتاويه استناداً إليها.

ثانياً: ما سيأتي في مسألة جواز التقليد و عدمه ممّا استند إليه لعدم الجواز من الآيات الناهية عن العمل بغير علم، حيث إنّ لازمه كون التقليد هو العمل بغير العلم، و لم يردّ عليه (لا من جانب المستدلّين بها لعدم جواز التقلّد و لا من جانب المجيبين عنهم) بأنّ هذه الآيات لا ربط لها بمسألة التقليد لأنّه ليس من مقولة العمل، فكأنّ الطرفين توافقا علي كونه من قبيل العمل.

و ثالثاً: أنّ المقصود من التقليد و الأثر الشرعي المترتّب عليه إنّما هو صحّة العمل و هي لا تحصل بدون العمل.

و بعبارة اخري: كما أنّ الآثار الشرعيّة التي تترتّب علي التقليد عبارة عن الآثار في مقام العمل فليكن معناه أيضاً

كذلك، أي لا بدّ من إدخال العمل في معناه.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 591

ثمّ إنّ القائلين بأنّ التقليد عبارة عن الالتزام القلبي أو الأخذ بالفتوي فعمدة الدليل عليه عندهم: أوّلًا: ما جاء في كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله و غيره من إشكال الدور، ببيان: أنّه لا بدّ أن يكون العمل عن تقليد، فيكون التقليد في رتبة سابقة علي العمل، فلو كان التقليد عبارة عن العمل فيكون في رتبة متأخّرة عنه، فيلزم منه الدور و تقديم ما حقّه التأخير.

و إن شئت قلت: أنّ وقوع العبادة في الخارج هو ممّا يتوقّف علي قصد القربة، و قصد القربة علي ثبوت كونها عبادة، و ثبوت ذلك للعامي ممّا يتوقّف علي التقليد، فلو كانت التقليد هو العمل، أي وقوع العبادة في الخارج، لتوقّف وقوعها في الخارج علي وقوعها في الخارج، و هو دور واضح.

ثانياً: أنّ التقليد سابق علي العمل، فلو كان التقليد هو نفس العمل لكان العمل الأوّل بلا تقليد.

ثالثاً: أنّ التقليد في اللغة جعل القلادة علي عنق المقلِّد، و لا إشكال في أنّه يتحقّق بالالتزام و إن لم يعمل بعد.

و الجواب عن الأوّل: أنّه لم يرد في آية و لا رواية من أنّه لا بدّ أن يكون العمل عن تقليد و مسبوقاً بالتقليد و ناشئاً عنه كي يجب أن يكون التقليد سابقاً علي العمل، بل الذي يجب علي المقلّد إنّما هو العمل بقول المجتهد و الأخذ بكلامه، فلو عمل بقوله فقد صدق أنّه قلّده و إن لم يصدق أنّه عمل عن تقليد.

و بعبارة اخري: أنّه قد وقع الخلط بين التقليد و الحجّة، فإنّ ما يجب علي المقلّد إنّما هو إتيان العمل عن حجّة، و التقليد عبارة عن

العمل عن حجّة، لأنّا نقول: لا بدّ أن يكون المكلّف في أعماله و عباداته إمّا مجتهداً أو محتاطاً أو مقلّداً، و لا نقول: لا بدّ أن يكون عمله عن تقليد، و حينئذٍ يكون علمه الأوّل أيضاً مع التقليد و ينطبق عليه عنوانه، لأنّه أيضاً يكون عن حجّة و دليل، و بهذا يظهر الجواب عن الدليل الثاني.

و أمّا الدليل الثالث ففيه: ما مرّ من معني التقليد في اللغة، فإنّه ليس عبارة عن جعل القلادة علي عنق المقلّد، بل هو عبارة عن جعل قلادة المسئولية علي عنق المجتهد و لا يحصل ذلك إلّا بعد العمل.

و العمدة في المقام و الذي يسهّل الخطب أنّ التكلّم في مفهوم التقليد لا يترتّب عليه ثمرة

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 592

فقهيّة، و ذلك لأنّه أمر حادث في مصطلح الفقهاء لم يرد في آية و لا رواية و لا معقد إجماع إلّا في مرسلة الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السلام: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» «1».

لكنّها مضافاً إلي ضعفها من ناحية السند مؤيّدة لما ذكرنا لأنّ الذمّ الوارد فيها إنّما هو علي عملهم بفتاوي من لا يوثق به من علماء أهل الكتاب.

نعم، عن محمّد بن عبيدة قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: «يا محمّد أنتم أشدّ تقليداً أم المرجئة؟ قال: قلت: قلّدنا و قلّدوا، فقال: لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الأوّل، فقال أبو الحسن عليه السلام: أنّ المرجئة نصبت رجلًا لم تفرض طاعته و قلّدوه، و أنّكم نصبتم رجلًا و فرضتم طاعته ثمّ لم تقلّدوه، فهم أشدّ منكم تقليداً» «2».

و لكنّها-

مع قطع النظر عن وجود سهل بن زياد في سندها- أيضاً خارجة عن محلّ البحث و هو التقليد عن غير المعصوم، مضافاً إلي أنّه ظاهر أيضاً في كون التقليد هو العمل لأنّ شكوي الإمام عليه السلام إنّما هو علي ترك العمل بأقواله و هداياته.

و هكذا ما جاء في بعض معاقد الإجماعات من أنّه «لا يجوز تقليد الميّت إجماعاً» لأنّه سيأتي أنّ الإجماع في باب التقليد لا أقلّ من كونه محتمل المدرك، فالظاهر أنّ منشأه هو بناء العقلاء، مضافاً إلي كونه من إجماع المتأخّرين الذي لا يكشف عن قول المعصوم عليه السلام تعبّداً.

و ربّما يقال: إنّ ثمرة البحث عن مفهوم التقليد تظهر في مسألتي البقاء علي تقليد الميّت، و العدول من حي إلي غيره، فإنّا إذا فسّرناه بالالتزام و فرضنا أنّ المكلّف التزم بالعمل بفتوي مجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد فله أن يعمل علي فتاواه لأنّه من قبيل البقاء علي تقليد الميّت، و ليس تقليداً ابتدائياً له، و هذا بخلاف ما إذا فسّرناه بالاستناد إلي فتوي المجتهد في مقام العمل لأنّه حينئذٍ من قبيل تقليد الميّت ابتداءً لعدم استناد المكلّف إلي شي ء من فتاوي المجتهد الميّت حال حياته في مقام العمل.

و هكذا في مسألة العدول من حي إلي غيره، لأنّه إذا التزم بالعمل بفتيا مجتهد، و فسّرنا التقليد بالالتزام حرّم عليه العدول عن تقليده لأنّه قد قلّده تقليداً صحيحاً و لا مرخّص له

______________________________

(1) وسائل الشيعة: الباب 10، من أبواب صفات القاضي، ح 20.

(2) المصدر السابق:

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 593

للعدول، و هذا بخلاف ما إذا قلنا أنّ التقليد هو الاستناد إلي فتوي المجتهد في مقام العمل، لأنّه حينئذٍ لم يتحقّق منه تقليد المجتهد ليحرم

عليه العدول بل لا يكون رجوعه لغيره عدولًا من مجتهد إلي مجتهد آخر «1».

و لكن يرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان دليل الجواز علي البقاء علي تقليد الميّت أو العدول من حي إلي آخر هو معاقد الإجماعات المشتملة علي لفظ التقليد، و لكن قد عرفت في السابق و سيأتي مشروحاً إن شاء اللّٰه أنّه ليس كذلك، فهذه الثمرة أيضاً ساقطة.

مسائل التقليد

اشارة

و يقع البحث فيه في ثلاث مقامات:

1- جواز التقليد للعامي

لا إشكال في أنّه لا بدّ من أن يكون العامي مجتهداً في خصوص هذه المسألة التي لا مئونة لاستنباطها و اجتهادها، فإنّ لزوم رجوع الجاهل إلي العالم أمر ارتكازي لجميع العقلاء، و سيأتي أنّ المهمّ و العمدة في باب التقليد إنّما هو بناء العقلاء، و ما يشاهد من أنّهم يكتبون في ابتداء رسائلهم العمليّة من أنّه لا بدّ للعامي أن يجتهد في خصوص هذه المسألة فهو لمجرّد تقريب الذهن و إرشاد العامي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ لجواز التقليد بامور أربع:

الأمر الأوّل: (و هو العمدة في المسألة) سيرة العقلاء في جميع أعصار و أنحاء العالم و جميع الصنائع و التجارات و الزراعات و العلوم المختلفة البشريّة كعلم الطب و شعبه المتفاوتة (طبّ الإنسان وطبّ الحيوان وطبّ النبات) و غيره من سائر العلوم، بل جميع المجتهدين و المتخصّصين للعلوم البشريّة يكون تخصّصهم و اجتهادهم في فنون طفيفة معدودة، و أمّا بالإضافة إلي سائر الفنون و الحرف فيكونون مقلّدين، فالمجتهد في علم الفقه مثلًا يقلِّد الأطباء

______________________________

(1) التنقيح: ج 1، ص 81- 82.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 594

في علم الطبّ و المعمار في بناء داره مثلًا، و هكذا في غيرها ممّا يحتاج إليه في امور معاشه، بل و في موضوعات أحكام معاده، و كثيراً ما يتّفق أنّ عدّة من طلّاب العلوم مثلًا يتعلّم كلّ واحد منهم علماً خاصّاً و يصير متخصّصاً في ذلك و في نفس الوقت يقلّد كلّ واحد من أصحابه في علمه الخاصّ به، فيكون كلّ منهم متخصّصاً في علم واحد و مقلّداً في سائر العلوم.

و لذلك نقول: إنّ ما يدور في الألسنة في يومنا هذا من

وجوب التحقيق في المسائل الشرعيّة الفرعيّة علي كلّ أحد و لا معني للتقليد فيها بعد إمكان التحقيق، كلام شعري أو هتاف سياسي، بل الأخباري المنكر للتقليد أيضاً إمّا أن ينكره باللسان وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ، أو يكون إنكاره من باب الخلط بين الاجتهاد بالمعني العامّ و الاجتهاد بالمعني الخاصّ كما مرّ بيانه آنفاً.

ثمّ إنّه لا بأس أن نشير هنا إلي أنّ هذا البناء للعقلاء يكون في الواقع ناشئاً من انسداد صغير فإنّهم يلاحظون في الأموال مثلًا أنّهم لو اعتمدوا فيه علي العلم فقط و أنكروا حجّية اليد علي الملكيّة لانسدّ باب العلم في هذا المقام و إن كان مفتوحاً في الأبواب و الموارد الاخري، و لذلك يعتبرون حجّية كثير من الاصول و القواعد كقاعدة اليد و غيرها، و هذه هي النكتة التي أشار إليها المحقّق الخراساني رحمه الله بقوله: «و إلّا لانسدّ باب العلم علي العامي».

الأمر الثاني: الاستدلال بالكتاب العزيز بجملة من الآيات:

منها: آية النفر، و قد مرّ الكلام فيه تفصيلًا في مبحث حجّية خبر الواحد، و ينبغي هنا أن نشير إلي نكتة منها فقط، و هي أنّ هذه الآية ناظرة إلي باب الاجتهاد و التقليد لا باب الرواية، فإنّ التفقّه الوارد فيها بمعني الاجتهاد و الاستنباط عن نظر و بصيرة، و إلّا ربّ حامل رواية وفقه إلي من هو أفقه منه، كما أنّ الإنذار أيضاً من وظائف و شئون المجتهد لا الراوي، أي إنّما يقدر علي الإنذار من كان بصيراً بالحكم الإلهي، و عالماً متيقّناً به، و قادراً علي تمييز الواجب عن المستحبّ، و ناظراً في الحلال و الحرام، و قد مرّ أيضاً أنّ كلمة «لعلّ» فيها كناية عن الوجوب، و إلّا فمادّة الحذر

و ماهيته لا تقبل الاستحباب كما لا يخفي.

نعم، هاهنا إشكالان لو أمكن دفعهما كان الاستدلال بالآية في المقام تامّاً و إلّا فلا:

أحدهما: أنّ الآية لا اطلاق لها حتّي تشمل صورة العلم و عدمه فلعلّ المقصود من قوله تعالي: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» خصوص ما إذا حصل من الإنذار العلم و اليقين بحكم اللّٰه فلا يعمّ

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 595

صورة حصول الظنّ كما هو محلّ النزاع في المقام، و بعبارة اخري: أنّ للآية قدر متيقّن في مقام التخاطب فإطلاقها ليس بحجّة لعدم حصول جميع مقدّمات الحكمة.

و الجواب عنه: أنّ الآية مطلقة، و مجرّد وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب لا ينافي الاطلاق كما ذكرناه في محلّه، و إلّا لاختلّ غالب النصوص المطلقة لنزولها أو ورودها في مقامات خاصّة.

ثانيهما: أنّها في مقام بيان وظيفة المجتهد لا المقلّد، فلا اطلاق لها من هذه الجهة.

و فيه: أنّه مجرّد دعوي لا شاهد عليها، بل الظاهر كون الآية في مقام البيان من الجانبين.

منها: آية السؤال، و هي قوله تعالي: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ» «1» و قوله تعالي: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ» «2» (و الفرق بينهما هو إضافة كلمة «من» في الثانية).

هذه الآية من جهة أقوي دلالة من آية النفر لأنّها في مقام بيان وظيفة المقلّد و تلك كانت في مقام بيان وظيفة الفقيه و المجتهد علي قول.

و تقريب الاستدلال بها واضح، فإنّ المراد من أهل الذكر أهل العلم و القرآن من العلماء كما نصّ عليه جماعة.

و لكن أورد عليه أوّلًا: بأنّ موردها و شأن نزولها إنّما هو

أهل الكتاب في باب اصول الدين التي يعتبر فيها تحصيل العلم، فيكون الأمر بالسؤال من أهل الذكر لتحصيل العلم من أقوالهم فيعمل بالعلم لا بأقوالهم تعبّداً ليثبت المطلوب.

و ثانياً: بأنّ ذيلها و هو قوله تعالي: «إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ» أقوي شاهد علي أنّ الغرض من السؤال هو العلم فالآية تقول: «إن كنت لا تعلم فاسأل حتّي تعلم».

لكن الإنصاف إمكان دفع كليهما …

أمّا الإيراد الأوّل: فلأنّ المورد ليس مخصّصاً و الآية مطلقة تعمّ السؤال عن اصول الدين و غيرها، و تقييد بعض المصاديق (و هو اصول الدين) بالعلم بدليل من الخارج لا يوجب تقييد سائر المصاديق به و اعتباره فيها، فكما أنّه يمكن تقييد جميع المصاديق بدليل منفصل كقوله: «لا

______________________________

(1) سورة الأنبياء: الآية 7.

(2) سورة النحل: الآية 43.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 596

تكرم الفسّاق منهم» بالنسبة إلي دليل «أكرم العلماء» كذلك يمكن تقييد بعض المصاديق كما إذا قيل: «لا تكرم الفسّاق من النحويين».

و أمّا الإيراد الثاني: فلأنّ قوله تعالي: «إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ» هو في مقام بيان الموضوع، أي تقول الآية: «اسأل عند عدم العلم حتّي تكون لك الحجّة» كما إذا قيل: «إن كنت لا تعلم دواء دائك فارجع إلي الطبيب» فليس معناه أنّ قول الطبيب يوجب العلم دائماً.

و بعبارة اخري: قوله تعالي: «إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ» ليس من قبيل بيان الغاية حتّي يورد عليها بما ذكر.

و بعبارة ثالثة: تارةً يكون العلم موضوعاً و اخري يكون غايةً، و ما نحن فيه من قبيل الأوّل، فهي تقول: إنّ الموضوع للرجوع إلي البيّنة أو القسم أو الموضوع للرجوع إلي الخبرة إنّما هو الجهل، و هذا لا يعني حصول العلم بعد الرجوع.

سلّمنا كونه غاية، لكن ليس المراد

من العلم في المقام اليقين الفلسفي كما مرّ كراراً بل المراد منه هو العلم العرفي الذي يحصل من ناحية إقامة أيّة حجّة، فإنّ العرف و العقلاء يعبّرون بالعلم في كلّ مورد قامت فيه الحجّة.

هذا- و لكن الآيات الواردة في المسألة كبعض الروايات الواردة فيها التي سنشير إليها إمضاءً لما عند العقلاء من رجوع الجاهل إلي العالم، نعم لا ضير فيها من هذه الجهة.

الأمر الثالث: الروايات الواردة في خصوص المقام، و هي كثيرة إلي حدّ تغنينا عن البحث حول إسنادها.

منها: ما رواه أبو عبيدة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «من أفتي الناس بغير علم و لا هدي من اللّٰه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه» «1».

فهو يدلّ بمفهومه علي جواز الإفتاء بعلم، و لا ريب في أنّ المقصود من العلم فيه إنّما هو الحجّة.

منها: ما رواه عنوان البصري عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليهما السلام في حديث طويل يقول فيه: «سل العلماء ما جهلت و إيّاك أن تسألهم تعنّتاً و تجربة» «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: الباب 4، من أبواب صفات القاضي، ح 1.

(2) المصدر السابق: الباب 12، من أبواب صفات القاضي، ح 54.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 597

و منها: ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المتعة فقال:

«ألق عبد الملك بن جريح فسله عنها فإنّ عنده منها علماً» «1».

و منها: ما رواه في تحف العقول من كلام الحسين بن علي عليه السلام في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و يروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «اعتبروا أيّها الناس … بأنّ مجاري الامور و الأحكام علي أيدي العلماء باللّٰه

الامناء علي حاله و حرامه … » «2».

و منها: ما رواه في المستدرك عن علي عليه السلام: أنّه قال في حديث: «فإذا كان كذلك اتّخذ الناس رؤساء جهّالًا يفتون بالرأي و يتركون الآثار فيضلّون و يضلّون فعند ذلك هلك هذه الامّة» «3».

و منها: ما رواه في المستدرك أيضاً عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام: عن رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله:

«أنّ اللّٰه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس و لكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم ينزل عالم إلي عالم يصرف عنه طلّاب حكّام الدنيا و حرامها، و يمنعون الحقّ أهله و يجعلونه لغير أهله، و اتّخذ الناس رؤساء جهّالًا، فسألوا فأفتوا بغير علم فضلّوا و أضلّوا» «4».

و منها: ما رواه مفضّل بن يزيد قال: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال، أنهاك أن تدين اللّٰه بالباطل، و تفتي الناس بما لا تعلم» «5».

و منها: ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: «إيّاك و خصلتين ففيهما هلك من هلك إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم» «6».

و منها: ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج أيضاً قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مجالسة أصحاب الرأي فقال: جالسهم و إيّاك عن خصلتين تهلك فيهما الرجال، أن تدين بشي ء من رأيك أو تفتي الناس بغير علم» «7».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 5.

(2) مستدرك الوسائل: ح 16 من الباب 11، من أبواب صفات القاضي.

(3) المصدر السابق: ح 2 من الباب 10، من أبواب صفات القاضي.

(4) المصدر السابق: ح 6 من الباب 10، من أبواب صفات القاضي.

(5)

المصدر السابق: الباب 4، من أبواب صفات القاضي، ح 2.

(6) المصدر السابق: ح 3.

(7) المصدر السابق: ح 29.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 598

و منها: ما رواه موسي بن بكر قال: قال أبو الحسن عليه السلام: «من أفتي الناس بغير علم لعنته ملائكة الأرض و ملائكة السماء» «1».

و منها: ما رواه إسماعيل بن زياد عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله:

من أفتي الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء و الأرض» «2».

و منها: ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السلام في حديث طويل:

«فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً علي هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه» «3».

و دلالته علي المطلوب واضحة.

و منها: ما رواه حذيفة قال: سألته عن قول اللّٰه عزّ و جلّ: «اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ» قال: «أما إنّهم لم يتّخذوهم آلهة إلّا أنّهم أحلّوا لهم حلالًا فأخذوا به و حرّموا حراماً فأخذوا به، فكانوا أربابهم من دون اللّٰه» «4».

و قد ورد الذمّ فيهما علي عمل اليهود حيث أخذوا أحكامهم عن العلماء المحرّفين لأحكام اللّٰه بما يظهر منه أنّه لو كان هؤلاء علماء صالحين لم يكن هناك ذمّ في الرجوع إليهم.

و منها: ما رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث طويل: «قال ينظر أنّ من كان منكم ممّن قد روي حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ علي اللّٰه

و هو علي حدّ الشرك باللّٰه» «5».

و منها: ما رواه أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام: « … اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً … » «6».

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: الباب 4، من أبواب صفات القاضي، ح 31.

(2) المصدر السابق: ح 32.

(3) المصدر السابق: الباب 10، من أبواب صفات القاضي، ح 20.

(4) المصدر السابق: ح 28.

(5) المصدر السابق: ح 1.

(6) المصدر السابق: الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 6.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 599

و هما و إن وردا في باب القضاء و لكن ظاهرهما أو صريحهما كون النزاع في الشبهات الحكميّة فلو جاز الرجوع إلي القضاة فيها مع النزاع جاز الرجوع إليهم فيها بدونه أيضاً فتأمّل.

و منها ما رواه إسحاق بن يعقوب عن الإمام الحجّة عليه السلام: « … و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّٰه … » «1».

و منها: عدّة من الأحاديث الواردة في نفس الباب مثل الحديث 11 و 15 من الباب الحادي عشر من المستدرك، و مثل الحديث 15 و 21 و 34 و 35 و 36 من الباب الحادي عشر من الوسائل (و إن كان بعضها لا يخلو عن كلام) ممّا يدلّ علي إرجاع الناس إلي أعاظم أصحابهم نظير زرارة و أبي بصير و محمّد بن مسلم و زكريّا بن آدم و بريد بن معاوية و أشباههم، و لا شكّ أنّهم كانوا ممّن يعالجون تعارض الأخبار و يجمعون بين المطلق و المقيّد و العام و الخاصّ و ما يشبه ذلك، و لا شكّ في أنّ هذه نوع من الاجتهاد فالأخذ منهم

كان من باب أخذ المقلّد من المجتهد.

إلي غير ذلك ممّا ورد في هذا المعني و هي متفرّقة في أبواب مختلفة من الوسائل و المستدرك في أبواب صفات القاضي.

الأمر الرابع: إجماع المسلمين، و قد يعبّر عنه بسيرة المتشرّعة لأنّه إجماع عملي و الظاهر أنّه أيضاً ينشأ من بناء العقلاء علي رجوع الجاهل إلي العالم، و لا أقلّ من احتماله، أي احتمال أنّ المتشرّعين و المتديّنين بنوا علي الرجوع إلي العالم بالمسائل الشرعيّة لا بما هم متشرّعون بهذا الشرع المقدّس بل بما هم عقلاء أو بما أنّه من الامور الفطريّة الارتكازيّة (كما اعترف به المحقّق الخراساني) ثمّ أمضاه الشارع المقدّس و إذاً ليس الإجماع أو السيرة دليلًا مستقلًا برأسه.

هذا كلّه ما يمكن أن يستدلّ به لجواز التقليد، و لكن مع ذلك كلّه نقل صاحب المعالم و صاحب الفصول عدم جوازه عن جماعة، فقال صاحب المعالم قدس سره، أنّه عزي في الذكري إلي بعض علماء الأصحاب و فقهاء حلب منهم القول بوجوب الاستدلال علي العوام، و قال

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح 9.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 600

صاحب الفصول قدس سره: «ذهب شرذمة إلي عدم جواز التقليد» و المشهور أيضاً أنّ الأخباريين منكرون لجواز التقليد.

و يمكن أن يستدلّ لهم أنّ العامي إمّا أن يكون عربياً يفهم الكتاب و السنّة، و يدرك مفاهيم الألفاظ و اللغات، فلا حاجة له حينئذٍ إلي الرجوع إلي المجتهد، بل هو بنفسه يلاحظ أدلّة الأحكام و يعمل بها، و أمّا أن يكون عجمياً فهو و إن لا يدرك معاني الألفاظ و اللغات و لكن لا حاجة له إلي التقليد أيضاً لأنّه يكفيه دلالة المجتهد إلي موارد الأدلّة و

وضعها بين يديه حتّي يصير قادرا علي استخراج الأحكام و استنباطها منها، فالمجتهد حينئذٍ يكون من قبيل المترجم فحسب، لا مرجعاً و مقلّداً.

و لكنّه واضح البطلان، أمّا في عصرنا هذا فلما نشاهده من سعة دائرة الفقه و أدلّة الأحكام و القواعد، و البعد الحاصل بيننا و بين عصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، الذي يوجب بطبعه غموضاً شديداً في فهم أدلّة الأحكام و مقاصد الإمام عليه السلام فإنّ تعليمها بجميع المقلّدين و عرضها لهم يستلزم نفر جميعهم إلي الحوزات العلميّة، و هذا ممّا يلزم منه اختلال النظام و المعاش.

و أمّا بالنسبة إلي أعصار الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي كان تحصيل المسائل فيها خفيف المئونة، و إسناد الروايات فيها واضحة، أو لم يكن حاجة إليها لإمكان الوصول إلي الأئمّة عليهم السلام مباشرةً و بدون الواسطة، و بالجملة كان الاجتهاد و الاستنباط في ذلك الزمان بسيطاً جدّاً بالنسبة إلي زماننا هذا، فبالنسبة إلي تلك الأعصار نقول أيضاً: لم يكن تحصيل ملكة الاجتهاد ممكناً لجميع الناس خصوصاً لغير العرب، سيّما إذا لاحظنا أنّ كثيراً من الناس فاقدون للاستعداد اللازم لفهم المسائل الشرعيّة الدقيقة، بل و في مستواها البسيط، و هذا ممّا ندركه بوجداننا بالإضافة إلي عوام عصرنا فتدبّر.

و الحاصل: أنّ فرض إمكان الاجتهاد لجميع آحاد الناس في جميع الأحكام الشرعيّة من دون فرق بين الرجال و النساء، و من كان قريب العهد بالبلوغ من البدوي و القروي و غيرهما أمر يشبه بالخيال و الرؤيا، و من يدّعيه إنّما يدّعيه باللسان و يخالفه عند العمل، كما هو ظاهر، كما أنّ الأمر كذلك في سائر العلوم.

هذا- و عمدة أدلّتهم لعدم جواز التقليد هي الآيات الناهية بظاهرها عن التقليد، و هي علي

طائفتين:

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 601

الطائفة الاولي: ما تنهي عن العمل بالظنّ علي نحو العموم، فإنّ من الظنون ما يحصل من قول المجتهد للمقلّد.

و الطائفة الثانية: آيات وردت في خصوص باب التقليد و هي كثيرة (تبلغ إلي عشر آيات):

منها: قوله تعالي: «وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ» «1» و قوله تعالي: «بَلْ قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَليٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَليٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ» «2». و قوله تعالي: «وَ كَذٰلِكَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلّٰا قٰالَ مُتْرَفُوهٰا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَليٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَليٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ» «3». إلي غير ذلك ممّا يدلّ علي هذا المعني.

و الجواب عنهما: أمّا عن الطائفة الاولي فقد اجيب عنها بأنّها عام تخصّص بأدلّة حجّية الظنون المعتبرة.

و لكن قد مرّ سابقاً أنّ لسان هذه الآيات آبية عن التخصيص.

و اجيب عنها أيضاً: بأنّها واردة في اصول الدين لأنّها ناظرة إلي تقليدهم في الشرك و عبادة الأوثان، و محلّ النزاع في المقام هو الفروع، و المنع عن العمل بالظنّ خاصّ بالاصول.

و لكن قد مرّ أيضاً أنّ هذا الجواب لا يساعد مع لحن بعضها كقوله تعالي: «وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» فإنّه و إن فرض كون الفؤاد خاصّاً بالاصول و لكنّه لا ريب في أنّ السمع و البصر لا أقلّ من كونهما عامين يشملان الفروع و الاصول لو لم يكونا خاصّين بالفروع.

هذا مضافاً إلي أنّ المورد لا يكون مخصّصاً في أي مقام.

و الجواب الثالث

(و هو الصحيح): أنّ الظنّ الوارد في هذه الطائفة لا يراد منه الاحتمال الراجح في الذهن، بل هو عبارة عن الحدس و التخمين بلا أساس و دليل، فلا يعمّ الظنّ المعتبر المعتمد علي الحجّة لأنّ ذلك يعدّ من مصاديق العلم عند العقلاء، و الشاهد علي ذلك نفس

______________________________

(1) سورة البقرة: الآية 170.

(2) سورة الزخرف: الآية 22.

(3) سورة الزخرف: الآية 23.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 602

التعبيرات الواردة في هذه الآيات ففي قوله تعالي: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَي الْأَنْفُسُ» «1» حيث جعل الظنّ قريناً لهوي الأنفس، كما أنّ في قوله تعالي: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلّٰا يَخْرُصُونَ» «2» حيث جعل قريناً للخرص و التخمين بلا دليل.

و يشهد علي ذلك أيضاً أنّ من ظنونهم ما جاء في قوله تعالي (قبل الآية الاولي من الآيتين المزبورتين) «أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثيٰ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزيٰ إِنْ هِيَ إِلّٰا أَسْمٰاءٌ سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ» فقد نفت هذه المزعمة: أنّ لهم الذكر و للباري تعالي الانثي، لأنّه وهم غير معقول و لا يعتمد علي الحجّة و الدليل، بل الدليل العقلي القطعي علي خلافه.

و يؤيّد ذلك كلّه ما ذكرنا آنفاً من أنّ الظنون المعتبرة العقلائيّة تعدّ علماً عند العرف كما يساعد عليه وجداننا العرفي و ارتكازنا العقلائي.

و أمّا عن الطائفة الثانية: فهو واضح جدّاً، لأنّ التقليد علي خمسة أقسام: تقليد الجاهل عن الجاهل، و تقليد العالم عن الجاهل، و تقليد العالم عن العالم، و تقليد الجاهل عن العالم الفاسق، و تقليد الجاهل عن العالم العادل، و لا إشكال في أنّ الأربعة الاول ممنوعة مذمومة عقلًا و شرعاً، و

الجائز الممدوح منها هو القسم الأخير، كما لا إشكال في أنّ التقليد في مورد آيات هذه الطائفة إنّما هو تقليد الجاهل عن الجاهل، كما يشهد عليه قوله تعالي: «أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لٰا يَهْتَدُونَ» الوارد في الآية الاولي منها.

و بهذا يظهر الجواب عن الروايات الناهية عن التقليد، فإنّها أيضاً أمّا وردت بالنسبة إلي تقليد الجاهل عن الجاهل، أو تقليد الجاهل عن العالم الفاسق، و كلاهما ممنوعان عند العقل و الشرع.

هذا كلّه في المقام الأوّل من البحث في أحكام التقليد.

______________________________

(1) سورة النجم: الآية 23.

(2) سورة الأنعام: الآية 116.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 603

2- تقليد الأعلم
اشارة

إذا اختلفت العلماء في العلم و الفضيلة فهل يجب علي العامي اختيار الأعلم، أو لا؟

المعروف بين الأصحاب وجوب تقليد الأعلم، بل حكي عن المحقّق الثاني رحمه الله دعوي الإجماع عليه، بل عن السيّد المرتضي رحمه الله أنّه من المسلّمات عند الشيعة، و مع ذلك كلّه حكي عن جماعة من المتأخّرين عدم وجوبه.

و هنا قول ثالث و هو مختارنا و مختار جماعة اخري، و هو التفصيل بين ما علم إجمالًا أو تفصيلًا بوجود الخلاف فيه مع كونه محلًا للابتلاء فيكون تقليد الأعلم واجباً، و بين غيره من سائر الموارد فلا يكون واجباً، و لعلّ مقصود من يدّعي الإجماع في وجوب تقليد الأعلم إنّما هو الصورة الاولي فقط.

و كيف كان: لا إشكال في أنّ الأصل في المسألة هو عدم حجّية قول غير الأعلم لما مرّ في أوّل مبحث الظنّ من أنّ الأصل في موارد الشكّ في حجّية الظنون هو عدم الحجّية.

و إن شئت قلت: إنّا نعلم إجمالًا باشتغال الذمّة بعدّة من التكاليف الشرعيّة و الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة

اليقينيّة، و هي لا تحصل إلّا بالعمل بآراء الأعلم.

و من هنا يظهر بطلان كلام من توهم أنّ الأصل في المسألة هو الجواز من باب أنّ الأمر فيها يدور بين التعيين و التخيير، و الأصل فيه التخيير، فإنّ في التعيين كلفة زائدة تنفي بأصالة البراءة.

و ذلك لأنّ أصالة التخيير عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير إنّما هي في باب التكاليف أي فيما إذا كان الشكّ في أصل التكليف لا في ما إذا كان الشكّ في الحجّية، فإنّ أصالة التخيير في الواقع عبارة عن أصالة البراءة عن تلك الكلفة الزائدة الموجودة في التعيين، و لا إشكال في أنّ مجري أصالة البراءة إنّما هي التكاليف.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ علي جواز تقليد غير الأعلم بامور:

الأمر الأوّل: أنّ المسألة من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و قد مرّ بيانه و الجواب عنه آنفاً.

الأمر الثاني: قاعدة العسر و الحرج ببيان أنّ معرفة مفهوم الأعلم (و هل هو عبارة عن الأعلم بالاصول، أو الأعلم بالفروع و التفريعات، أو من هو أعلم في تشخيص المذاق العرفي

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 604

و الظواهر عند العرف، أو من هو أعلم في علم الرجال، أو من هو أدقّ نظراً من غيره، أو جميع هذه؟) أولًا، و معرفة مصاديقه ثانياً، مشكل جدّاً لتلامذه الأعلام المجتهدين فضلًا عن العوام المقلّدين، و لذلك يجاب غالباً عند السؤال عن الأعلم» ب «أنّي لا أعرف مصداق الأعلم و لكن فلان يجوز تقليده» أو «كلّ واحد من فلان و فلان يجوز تقليده».

و الجواب عنه: أوّلًا المنع عن الكبري فإنّه لا عسر و لا حرج في تعيين مفهوم الأعلم لأنّ المراد منه «من يكون أعرف بالقواعد

و المدارك للمسألة، و أكثر اطّلاعاً لنظائرها و أشباهها، و أجود فهماً للأخبار الواردة فيها، و الحاصل أن يكون أجود استنباطاً» و قد ذكر هذا التعريف المحقّق اليزدي في العروة الوثقي في المسألة 17، و لم يعلّق عليه أحد من المحشّين فيما رأينا.

توضيح ذلك: أنّ الأعلم في علم الطبّ مثلًا من هو أحسن معالجة للأمراض و أدقّها في دواء الداء، و الأعلم في البناء من هو يقدر علي بناء أحسن الأبنية من دون فرق بين أن يكون تلميذاً أو استاذاً، فربّ تلميذ يكون أعلم من استاذه، كما لا فرق بين أن يكون شاباً أو كهلًا، فربّ مجتهد شابّ يكون أعلم من الشيخ الهرم و إن كان الشيخ أكثر حنكاً و تجربة و أكثر تسلّطاً علي إعمال المصطلحات و استخدام القواعد، فإنّ المعيار هو شدّة القوّة و القدرة علي استخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها.

نعم، إنّ تشخيص مصداق هذا المعني مشكل جدّاً، و لكنّه فيما إذا كان البُعد و المسافة بين الأفراد قصيرة، أمّا إذا كانت التفاوت العلمي بينهم كثير فلا عسر و لا حرج في تشخيص الأعلم و تعيينه، كما أنّه كذلك في باب الطبابة و غيرها.

و ثانياً: سلّمنا وجود العسر و الحرج فيه، و لكن قد ذكرنا في محلّه أنّ الحرج في بابه شخصي لا نوعي، فوظيفة تعيين الأعلم تسقط عن كلّ من يقع في العسر و الحرج لا عن الجميع.

كما أنّه كذلك في باب الوضوء و الصيام و نحوهما، فإذا لم يكن التوضّي بالماء لشخص زيد حرجاً، لم يسقط عنه و إن كان لغيره حرجاً و مشقّة.

و ثالثاً: إنّ أكثر ما يلزم من العسر و الحرج إنّما هو التخيير بين عدّة من المجتهدين الذين

هم في مظنّة الأعلميّة، لا أن يسقط اعتبارها برأسها، فيجوز تقليد غيرهم من آحاد المجتهدين و إن كانوا بمكان بعيد من الأعلميّة.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 605

الأمر الثالث: (و هو العمدة) الرجوع إلي إطلاقات آية النفر أو آية السؤال أو اطلاق الروايات التي استدلّ بها للمقام (كقوله عليه السلام «فللعوام أن يقلّدوا») فإنّ آية النفر لا تقول:

«و لينذر أعلمهم» و ليس في آية السؤال «فاسألوا أعلمهم» و في الرواية: «فللعوام أن يقلّدوا أعلمهم» و في رواية اخري: «فارجعوا إلي أعلم رواة أحاديثنا» و هكذا الروايات التي ترجع المكلّفين إلي أصحابهم عليهم السلام.

و يرد عليه: أوّلًا: أنّ هذه الإطلاقات منزّلة علي بناء العقلاء و إمضاء له فإنّه قد مرّ أنّ الأساس في باب التقليد إنّما هو بناء العقلاء، و هو قائم علي تقليد الأعلم في موارد العلم بالمخالفة علي الأقل، و الظاهر أنّ الإطلاقات المذكورة ناظرة إلي دائرة هذا البناء لا أن تكون رادعة عنها و موسعة لها.

ثانياً: قد مرّ أيضاً أنّ إطلاقات أدلّة الحجّية لا تعمّ الحجّتين المتعارضتين كما في ما نحن فيه، و حينئذٍ لا بدّ أن يقال إمّا بتعارضهما ثمّ تساقطهما، أو يقال بأنّ القدر المتيقّن منهما هو الأعلم، و لا ريب في أنّ المتعيّن هو الثاني.

هذا كلّه في أدلّة المنكرين لاعتبار الأعلميّة.

و أمّا أدلّة وجوب تقليد الأعلم فأوّلها: الإجماع، بل نقل عن السيّد المرتضي رحمه الله أنّه من مسلّمات الشيعة.

و لكن لا إشكال في أنّه مدركي.

و الثاني: سيرة العقلاء، و هي العمدة، فإنّه كما أشرنا آنفاً لا أقلّ من بنائهم علي تقليد الأعلم في موارد العلم بالمخالفة كما إذا وقع الاختلال بين الأطباء أو بين خبراء أي فنّ من الفنون

الاخري.

نعم لازم هذا الدليل ما سيأتي من التفصيل فانتظر.

الثالث: الروايات:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة.

و اجيب عنها أوّلًا: أنّها مخصوصة بباب القضاء، و لا ريب في أنّ فصل الخصومة فيه لا

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 606

يمكن إلّا بالرجوع إلي الأعلم عند اختلاف القضاة.

ثانياً: أنّ المراد من الأعلميّة في مورد الرواية هي الأعلميّة بالنسبة إلي مورد المخاصمة لا مطلق الموارد كما هو محلّ النزاع في المقام، فتأمّل.

و قد استشكل فيها أيضاً من ناحية السند، و لكنّه قد مرّ أنّ الأصحاب تلقّوه بالقبول حتّي سمّيت مقبولة.

و منها: ما جاء في عهده عليه السلام إلي مالك الأشتر النخعي: «فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك» «1».

و لكنّه أيضاً خاصّ بباب القضاء و فصل الخصومة الذي لا إشكال في اعتبار اختيار أعلم القضاة فيه عند اختلافهم، هذا أوّلًا.

و ثانياً: إنّ عهده عليه السلام إلي مالك الأشتر مشتمل علي مستحبّات كثيرة و أوصاف غير لازمة للحاكم أو القاضي التي هي كمال لهما (لا سيّما في هذا المورد، فقد ذكر فيه اثنا عشر صفة- كثير منها صفات كمال)، فلا يمكن استفادة اللزوم من فقرة من فقراته بمجرّد التعبير بصيغة الأمر.

و منها: ما رواه في البحار عن كتاب الاختصاص قال: قال رسول اللّٰه صلي الله عليه و آله: «و إنّ الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها و من دعي الناس إلي نفسه و فيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللّٰه إليه يوم القيامة» «2».

و فيه: أنّ التعبير بالرئاسة قرينة علي أنّ الحديث ورد في مقام بيان شرائط الولاية و الحكومة لا المرجعيّة للتقليد، و لا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفي، مضافاً إلي ضعف سنده.

و منها: ما رواه في البحار أيضاً

عن الإمام الجواد عليه السلام- أنّه قال مخاطباً عمّه- «يا عمّ أنّه عظيم عند اللّٰه أن تقف غداً بين يديه فيقول لك لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم و في الامّة من هو أعلم منك» «3».

و فيه: أنّه ضعيف من ناحية السند، مضافاً إلي ضعف الدلالة لأنّه في مقام النهي عن إفتاء

______________________________

(1) كتابه عليه السلام إلي مالك الأشتر، الكتاب 53، من نهج البلاغة.

(2) بحار الأنوار: ج 2، ص 110.

(3) بحار الأنوار: ج 50، ص 100.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 607

الجاهل و غير العالم في مقابل العالم لا العالم في مقابل الأعلم، و ذلك لمكان التعبير ب «ما لم تعلم» الظاهر في الجاهل لا في العالم بالنسبة إلي الأعلم منه.

فتلخّص أنّ جميع الروايات التي استدلّ بها في المقام غير تامّة دلالة أو سنداً، و هكذا الإجماع، بل التامّ إنّما هو بناء العقلاء و هو أيضاً لا يقتضي وجوب تقليد الأعلم مطلقاً بل مقتضاه هو التفصيل الآتي ذكره.

المختار في المسألة

المختار في المسألة هو التفصيل بين صور أربعة:

الصورة الاولي: ما إذا علم تفصيلًا بالخلاف كما إذا ذهب أحدهما إلي وجوب صلاة الجمعة و الآخر إلي حرمتها أو عدم وجوبها.

ففي هذه الصورة لا ريب في وجوب تقليد الأعلم، و من البعيد جدّاً شمول كلمات القائلين بجواز تقليد غير الأعلم لهذه الصورة.

الصورة الثانية: صورة العلم بموافقتهما تفصيلًا.

و الظاهر عدم وجود محذور عن تقليد غير الأعلم في هذه الصورة لأنّ المفروض أنّ عمل المقلّد حينئذٍ مطابق للحجّة علي أيّ حال، إنّما الكلام في لزوم استناده إلي خصوص قول الأعلم، و لا إشكال في عدم لزومه بعد العلم بموافقتهما معاً، مضافاً إلي أنّ بناء العقلاء أيضاً علي عدم ترجيح رأي الأعلم

في هذه الصورة لعدم فائدة فيه، كما هو واضح.

الصورة الثالثة: ما إذا علمنا إجمالًا بوجود الخلاف بينهما في ما يتبلي به من المسائل.

و فيها أيضاً لا إشكال في وجوب تقليد الأعلم لأنّ العلم الإجمالي المزبور يوجب عدم شمول إطلاقات الحجّية لمثل هذه الموارد و انصرافها عنها، و لا أقلّ من إجمالها، و القدر المتيقّن حينئذٍ هو الرجوع إلي الأعلم، كما أنّ سيرة العقلاء أيضاً ترجيح الأعلم في هذه الموارد علي الظاهر.

الصورة الرابعة: ما إذا شككنا في وجود الخلاف و عدمه.

و الإنصاف جواز تقليد غير الأعلم في هذه الصورة، و الدليل عليه جريان سيرة العقلاء عليه كما نشاهده بالوجدان، و إلّا لانسدّت أبواب الأطبّاء غير الأعلم و غيرهم من خبراء

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 608

سائر الفنون و الحرف لأنّه لا ريب في أنّ الشكّ في الخلاف موجود علي الأقل في غالب الموارد.

هذا مضافاً إلي أنّه لا مانع لشمول إطلاقات الحجّية لغير الأعلم في هذه الموارد لأنّه لا موجب لانصرافها.

إن قلت: التمسّك بالإطلاقات و العمومات في ما نحن فيه يكون من قبيل التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص لأنّا نعلم بتخصيص هذه العمومات بموارد العلم بالمخالفة.

قلنا: إنّ دائرة الدليل المخصّص في المقام تكون في موارد العلم بالاختلاف لا موارد الاختلاف في الواقع، فإنّ الدليل علي التخصيص هو سيرة العقلاء، و هي مختصّة بموارد العلم بالخلاف لا موارد الخلاف واقعاً سواء علمنا بها أو لم نعلم، و لا إشكال في أنّ عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص خاصّ بما إذا كان المستثني من عموم العام بدليل المخصّص هو العنوان الواقعي لا العنوان المقيّد بالعلم.

إن قلت: الشبهة في المقام حكميّة و لا يجوز التمسّك بالعمومات

في الشبهات الحكميّة إلّا بعد الفحص.

قلنا: إنّ الشبهة في ما نحن فيه موضوعيّة لا حكميّة، لأنّه لا شكّ لنا في حكم اللّٰه الكلّي فإنّا نعلم علي نحو كلّي بأنّه يجوز التقليد إلّا في موارد العلم بالخلاف، و إنّما الشكّ في تحقّق موضوع الخلاف و عدمه خارجاً.

بقي هنا شي ء:

مدار الأعلميّة علي ما ذا؟

قد مرّ أنّ المعيار فيه هو شدّة القوّة و القدرة علي استخراج الأحكام الشرعيّة من أدلّتها إجمالًا، و لا إشكال في أنّ معرفة هذا ليس مشكلًا لأهل الخبرة و لو كانوا في المراتب التالية بالنسبة إلي المجتهد محتمل الأعلميّة، و هذا ما ندركه بوجداننا العرفي، فمن كان له معرفة بقواعد الشعر و موازينه مثلًا يقدر علي أن يعيّن بعض الشعراء المعروفين ممن هو أقوي من هذه الناحية، أو شاعر متوسّط له حظّ من هذه الملكة و كذلك نري أبنية كثيرة في غاية الاستحكام و الجودة، و نري فرقاً كثيراً بينها و بين أبنية اخري لا يري فيها هذه المزيّة، و نعلم قطعاً أنّ المعمارين في القسم الأوّل كانوا أقوي و أعلم و أكثر خبرة و أحسن ذوقاً من المعمارين في القسم

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 609

الثاني، و ربّما لا نقدر مع ذلك أن نبني بناءً بأنفسنا، و هكذا في فنّ الخطابة و غيرها من سائر الفنون.

و كيف كان يمكن تلخيص موازين الأعلميّة في عدّة امور:

1- أن يكون أعلم في معرفة مباني الفقه (اصول الفقه) و كيفية الورود في المسألة و الخروج عنها، (أي يكون أعلم بالمباني).

2- أن يكون أعلم بمنابع الأحكام من الآيات و الروايات و رجال الحديث و سائر الأدلّة الأربعة (أي يكون أعلم بالمبادئ).

3- أن يكون أدقّ و أعمق نظراً.

4- أن يكون أقوي

حفظاً و أشدّ تسلّطاً علي الفروع فإنّ مسائل الفقه مع افتراق بعضها عن بعض و انبثاثها و انتشارها في أبواب مختلفة تكون ذا ارتباط و نسج خاصّ في كثير منها، كما لا يخفي علي الخبير.

5- أن يكون أعرف في تشخيص الموضوعات العرفيّة و مذاق أهل العرف، فإنّ لمعرفة الموضوعات دخل تامّ في معرفة الأحكام هذا أولًا.

و ثانياً: أنّ كثيراً من مسائل الشرع امضاء لما عند العقلاء فلا بدّ للعلم بها من معرفة مذاق العقلاء و العرف و الارتكازات العقلائيّة و المناسبات العرفيّة.

6- أن يكون أكثر ممارسة في المسائل الشرعيّة لكثرة الرجوع إليه في أبواب مختلفة من الفقه، و لهذا فاحتمال أعلميّة من تربّي في الحوزات العلميّة الكبري يكون أكثر من احتمال أعلميّة غيره ممّن ترعرع في غيرها، كما أنّه كذلك في سائر الفنون كالطبابة مثلًا فإنّ من داوي الجرحي و عالج كثيراً من المجروحين في أيّام الحرب يصير أقوي ملكة في الطبابة و عملية الجراحة من غيره.

7- أن يكون له حسن سليقة و اعتدالها و ذهن مستقيم في اختيار الرأي، لا طبع سقيم و اعوجاج في السليقة.

و لا يخفي أنّ كثيراً من أعاظم الفقه مثل الفقيه الماهر صاحب الجواهر أو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله كانوا واجدين لجميع هذه الخصوصيات كما هو ظاهر لمن تتبّع آثارهم.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 610

3- تقليد الميّت

و الأقوال فيه ثلاثة:

1- عدم الجواز، و هو المشهور بيننا، و لعلّه مجمع عليه، و نسب الجواز إلي الكليني في مقدّمة الكافي و الصدوق في مقدّمة من لا يحضر الفقيه و العلّامة و المحقّق القمّي رحمه الله في جامع الشتات (و سيأتي عدم صحّة هذه النسبة بأجمعها إلّا ما نسب إلي المحقّق

القمّي رحمه الله) و نقل أيضاً عن جماعة من الأخباريين، و لكن سيأتي أيضاً أنّ مخالفتهم للُاصوليين في هذه المسألة من قبيل الخلاف في الموضوع لا الحكم.

2- الجواز، و هو المشهور بين العامّة.

3- التفصيل بين التقليد الابتدائي فلا يجوز، و التقليد الاستمراري (أي البقاء علي التقليد بعد الموت) فيجوز، و هو المختار.

و استدلّ القائلون بعدم الجواز بوجوه عمدتها ثلاثة:

الوجه لأوّل: (و هو العمدة أيضاً بين الثلاثة) الإجماع، فقد نقل شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسالته (رسالة الاجتهاد و التقليد) عن صاحب المسالك أنّه قال: صرّح الأصحاب باشتراط الحياة، و عن الوحيد البهبهاني رحمه الله أنّه قال: أجمع الفقهاء علي اشتراط الحياة.

و عن صاحب المعالم رحمه الله أنّه قال: العمل بفتاوي الموتي مخالف لما يظهر من اتّفاق أصحابنا علي المنع من الرجوع إلي فتوي الميّت.

ثمّ قال الشيخ رحمه الله: يكون هذا الاتّفاق بدرجة من القبول حتّي شاع عند العوام أنّ قول الميّت كالميّت.

و لا يخفي أنّ هذا الإجماع ليس مدركيّاً بل إنّه ضدّ المدرك، لما سيأتي من أنّ القائلين بجواز تقليد الميّت يستدلّون عليه ببناء العقلاء لأنّهم يعتبرون لجميع الكتب العلمية بعد الموت ما يعتبرونه في زمن الحياة (كما أنّه الحقّ) فإنّ الفقهاء خالفوا هذا البناء بإجماعهم علي عدم الجواز، و هذا من الموارد التي يكون الإجماع فيها مخالفاً للقواعد، فضلًا عن أن يكون مستنداً إليها، و لم ينقل خلاف لهذا الإجماع إلّا ما نقل عن العلّامة و المحدّثين المعروفين (الكليني و الصدوق) و المحقّق القمّي قدّس اللّٰه أسرارهم.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 611

لكن العلّامة لم يثبت مخالفته من كتبه، و أمّا المحدّثان فعند الرجوع إلي كتاب الكافي و من لا يحضره الفقيه

نجد أنّ ترخيصهما في تقليد الميّت مبني علي مسلكهم من إنكار مشروعية التقليد برأسه، و أنّ رجوع العامي إلي المجتهد من باب الرجوع إلي رواة الحديث، فالمفتي ينقل الرواية لا أنّه يفتي حقيقة حسب رأيه و نظره، و لا إشكال في أنّ حجّية الرواية و جواز العمل بها لا يتوقّفان علي حياة الراوي بوجه، (و إن كان أصل هذا المبني لشبهة حصلت لهما فإنّه فرق بين الفتوي و نقل الرواية لأنّ الأوّل يكون من باب الحدس و الثاني من باب الحسّ).

و كذلك لا ضير في كلام المحقّق القمّي فإنّه أيضاً مبني علي ما ذهب إليه من انسداد باب العلم و حجّية مطلق الظنون، فيقول: أنّ المتعيّن علي المكلّف هو العمل بالظنّ سواء حصل من فتوي الميّت أو فتوي الحي.

الوجه الثاني: أنّ أدلّة وجوب التقليد علي العامي قاصرة عن شمولها لتقليد الميّت، حيث إنّ المجتهد الميّت لا يتّصف بالفعل بعنوان المنذر مثلًا في آية النفر أو عنوان أهل الذكر في آية السؤال، و إنّما كان منذراً أو كان من أهل الذكر.

و لكن إشكاله واضح لأنّ السؤال إنّما هو طريق للحصول علي رأي أهل الذكر و هو يحصل بالرجوع إلي الكتاب أيضاً، كما أنّ المقصود من الإنذار هو تحذير المكلّف، و هو يتحقّق بالرجوع إلي الكتاب أيضاً، و هكذا قوله عليه السلام: «فارجعوا إلي رواة الأحاديث» فإنّه يصدق بالرجوع إلي كتبهم المؤلّفة في حال حياتهم فإنّ الرجوع إلي الكتاب رجوع إلي مؤلّفه بلا ريب، كما أنّ الرجوع إلي آراء الفلاسفة و الأطباء و أهل الخبرة يحصل بالرجوع إلي كتبهم المؤلّفة و لو منذ آلاف سنة.

الوجه الثالث: أصالة عدم الحجّية في موارد الشكّ.

و لكنّه لا تصل النوبة إليها

مع وجود الدليل الاجتهادي علي الجواز كبناء العقلاء.

هذا كلّه هو أدلّة المنكرين للجواز و قد ظهر أنّ المعتمد منها إنّما هو الوجه الأوّل.

و استدلّ القائلون بالجواز أيضاً بوجوه ثلاثة:

1- السيرة المستمرّة للعقلاء علي أنّ آراء الأموات المكتوبة في كتبهم كآراء الأحياء في جميع الفنون كاللغة و الطبابة و الرجال و نحوها، و أمّا مهجورية بعض الآراء فلا ربط لها بالممات

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 612

أو الحياة فإنّه كثيراً ما يترك بعض آراء الحي أيضاً في زمان حياته لظهور رأي أقوي منه.

2- الاستصحاب، و هو استصحاب بقاء الرأي أو بقاء الحكم.

أمّا استصحاب بقاء الرأي فاستشكل في بأنّ الميّت لا رأي له.

إن قلت: إنّ هذا ينافي القول ببقاء النفس الناطقة، بل قد يقال: إنّ الإنسان يكون بعد مماته أعلم و أفقه «فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

قلنا: إنّ مسألة بقاء النفس الناطقة و نحوها من التدقيقات العقليّة لا يفهمها العرف فإنّه يحكم ببطلان الرأي بعد الموت و بأنّ الميّت لا رأي له، و لا ريب في أنّ المعتبر في باب الاستصحاب إنّما هو بقاء الحالة السابقة عند العرف فتأمّل.

و أمّا استصحاب الحكم (بأن يقال: كانت صلاة الجمعة واجبة علي المقلّد فالآن أيضاً واجبة عليه) فاستشكل فيه المحقّق الخراساني بأنّ الأمارات الشرعيّة لا يتولّد منها الحكم، بل مفادها إنّما هو المنجّزية و المعذورية فحسب.

و لكن قد مرّ الإشكال في أصل المبني كراراً.

و الصحيح في المقام أن يقال: أمّا استصحاب بقاء الرأي فالحقّ أنّه لا حاجة إليه لأنّ آراء الفقيه ليست عبارة عن الصورة الذهنيّة له حتّي تضمحلّ بموته، بل إنّ آراءه هي نفس ما كتبه في كتبه الفقهيّة، و هو ممّا لا شكّ فيه حتّي يستصحب

بقاؤه، و المحتاج إلي الاستصحاب إنّما هو بقاء حجّية هذه الآراء المكتوبة و هو نفس استصحاب بقاء الحكم، و قد ذكرنا في محلّه أنّ إجراء الاستصحاب في الشبهات الحكميّة مشكل جدّاً.

إن قلت: لو جاز تقليد الميّت بحكم الاستصحاب لجاز تقليد الحي إذا عرضه النسيان أيضاً لبقاء آرائه في كتبه مع أنّه غير جائز.

قلنا: لا نسلّم عدم الجواز بالنسبة إلي آرائه السابقة، نعم لا يجوز الاعتماد علي آرائه في الحال.

الثالث: إطلاقات أدلّة التقليد، لصدق عنوان أهل الذكر مثلًا علي الميّت أيضاً بلحاظ زمان صدور الرأي فإنّ المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدإ حال النسبة لا حال النطق.

و إن شئت قلت: لا بدّ أن يكون من يرجع إليه العامي من أهل الذكر و العلم عند صدور الرأي منه، و لا شكّ أنّه كان كذلك حال صدور هذه الآراء.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 613

و لكن يرد عليه: أنّ الإطلاقات منزّلة علي بناء العقلاء و لا تعدّ دليلًا مستقلًا برأسها.

فظهر أنّ الدليل السالم عن المناقشة للطائفة الثانية (القائلين بالجواز) إنّما هو بناء العقلاء، كما أنّ الدليل السالم عن المناقشة للطائفة الاولي إنّما هو الإجماع.

و قد استشكل في الإجماع أوّلًا: بأنّه مدركي، و مدركه أمّا أصالة عدم الحجّية أو انصراف الإطلاقات إلي الأحياء. و لكن قد مرّ الجواب عنه آنفاً.

و ثانياً: بأنّه لا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام لعدم اتّصال المجمعين بزمانه، من باب أنّ التقليد المبحوث عنه أو الاجتهاد المصطلح اليوم أمر حادث في زماننا و لم يكن رائجاً في ذلك الزمان.

و لكن يرد عليه أيضاً: أنّ التقليد بهذا المعني الحديث و لو في مستواه البسيط كان موجوداً في ذلك الزمان أيضاً، و أنّ الأئمّة عليهم

السلام كانوا يرجعون الناس إلي أصحابهم الموجودين في البلاد الإسلاميّة، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ مسلمي سائر البلاد لم يكن بإمكانهم الرجوع إلي الإمام عليه السلام في مسائلهم الشرعيّة و حاجاتهم الدينيّة، بل كانوا يرجعون فيها إلي علماء البلاد قطعاً، و العلماء أيضاً يستنبطونها من الأدلّة الموجودة بأيديهم بعد علاج تعارضها و حمل المطلق علي المقيّد و العام علي الخاصّ و الأخذ بأنواع المرجّحات، إلي غير ذلك ممّا كان من وظيفة المجتهد حتّي في تلك الأعصار.

أضف إلي ذلك أنّ تقليد الحي إنّما هو رمز بقاء المذهب و تحرّكه في جميع شئونه و تجدّده عصراً بعد عصر و جيلًا بعد جيل، بل هو رمز لازدهار علم الفقه و تقدّمه علي مرّ الدهور و الليالي و الأيّام، بل الإنصاف أنّ الثورات الإصلاحيّة بيد العلماء و الفقهاء في تاريخ التشيّع أثر من آثار هذا الأمر، كما شاهدناها في ثورة عصرنا، و ذلك أنّ الناس لو كانوا مقلّدين لشيخ الطائفة مثلًا فسوف لا يهتمّون بالأحكام الصادرة من جانب الفقهاء الموجودين لا سيّما قائد الثورة.

و بالجملة: أنّ القول بكفاية تقليد الميّت كلمة توجب المسرّة لأعدائنا لأنّها مانعة عن حركة الأحياء و قيادتهم، و هو الفارق الأساسي بين علماء الشيعة و علماء السنّة، و سرّ نشاط الطائفة الاولي و ركود الطائفة الثانية.

الاجتهاد و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 614

بقي هنا شي ء:

و هو أنّ هذا الإجماع دليل لبّي لا بدّ من الاكتفاء فيه بالقدر المتيقّن، و القدر المتيقّن منه إنّما هو التقليد الابتدائي فحسب، فهو رادع عن بناء العقلاء بالنسبة إلي خصوص الابتدائي، و أمّا الاستمراري فحجية بناء العقلاء فيه بلا مزاحم، و حينئذٍ يكون المختار في المسألة التفصيل بين الابتدائي و الاستمراري.

الاجتهاد

و التقليد (أنوار الأصول)، ج 3، ص: 615

إلي هنا انتهت محاضرات

شيخنا الاستاذ آية اللّٰه العظمي الشيخ ناصر مكارم الشيرازي دام ظلّه

في المسائل الاصوليّة من أوّل مباحث الألفاظ إلي آخر مباحث الاجتهاد و التقليد

في دورة كاملة جامعة لجميع مسائلها، و لا يشذّ منها شاذّ، و قد أشرف دام ظلّه علي جميع هذه الأوراق بدقّة و إمعان، و بذلت الجهد علي أن لا يفوت منّي شي ء منها كما بذلت جهدي في تقريرها و تنقيحها و أداء حقّها كي يبقي أثراً خالداً لطلّاب العلم

و آخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ.

اللهمّ تقبّله منّا و اجعله عملًا خالصاً يرجي به الرشد و الرضوان

و نافعاً ليوم المعاد يَوْمَ لٰا يَنْفَعُ مٰالٌ وَ لٰا بَنُونَ إِلّٰا مَنْ أَتَي اللّٰهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

و قد وقع الفراغ

من تصحيحه و تنقيحه

يوم السبت 22 بهمن من 1373 ه ش

11 رمضان المبارك من 1415 ه ق

من الهجرة النبوية علي هاجرها و آله آلاف التحيّة و السلام

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.